أخيلة الظل: منصورة عز الدين | فصل من الرواية الأخيرة

Marc Riboud, the former Imperial city of Hue, after the American bombing, May 1968. Source: magnumphotos.com

ربما كان في درسدن وقوات الحلفاء تمطرها بالقنابل شديدة الانفجار، أو في بغداد بينما تُدَّك بصواريخ كروز والتوماهوك الجاهلة بهول ما تفعل، أو في مدينة مخترَعة لحظة فنائها.
لا يهم اسم مدينته أو موقعها، فكل المدن المنكوبة، أثناء تعرضها لخطر الزوال، مدينة واحدة.
لم يكن واقفًا حين بدأ القصف، بل على أطرافه الأربعة، في وضع أقرب للسجود على أرض المكتبة. لا يعرف أكان يستبق المأساة، أم أنه كالحيوانات يمكنه التنبؤ بالخطر! لا يتذكر أنه سمع صفارات إنذار تحذر من غارة وشيكة، لكن أصوات الانفجارات المتتالية اخترقت أذنيه وترسخت في ذاكرته.
آلاف الأطنان من القنابل الحارقة أُلقيت على مدينته. مئات المباني والمنشآت صارت رمادًا. البيوت تحولت إلى قبور لساكنيها. الانفجارات المزلزلة فرّغت الفضاء المحيط بها من الهواء، خاصة أن الحرائق اشتعلت في كل جانب، مكونةً عاصفة نارية، التهمت ما تبقى من أكسجين. بعض من لم تقتلهم القنابل، اختنقوا وهم يتسولون أنفاسهم عبثًا، أو احترقوا من الحرارة اللاهبة. هناك من رموا أنفسهم في النهر، ليُفاجَأوا بأن مياهه تكاد تغلي. الناجون القلائل لم يفعلوا شيئًا سوى الاستلقاء في أماكنهم، منتظرين نهايتهم، داعين ألّا تتأخر، قبل أن يغرقوا في ظلام دامس. استسلامهم هذا كان من بين أسباب نجاتهم التي تلخصت في الحظ والصدفة وما بينهما. أو هكذا على الأقل كان الأمر في حالته.
كان مدفونًا تحت طبقات من التراب، فمه ممتلئ به وحلقه متشقق كأنه لم يعرف رطوبة اللعاب يومًا، أما جسده فغير موجود تقريبًا. لا، بل كثيف الوجود كأنما يزن طنًا. فكر وهو يفيق ببطء وسط الركام أنه الآن ناسك. لم يعد يشبه أمين المكتبة الذي كانه في شيء. لا مزيد من الانكفاء على صفحات كتاب قديم، أو البحث في قوائم الكتب، أو التجول في الممرات المتقاطعة بين أرفف لا نهائية.
لم يكن، في تلك اللحظة المشوشة، واعيًا بذاته، أو مدركًا لموقعه في العالم. كان فقط جسدًا بالغ الثقل وحلقًا جافًا كأنما مبطن بالجبس وعقلًا مخدَّرًا، لكنه كان واثقًا من أنه ناسك عارف بالطاو.
خطر له أنه اعتاد التوهان عن ذاته وفقدها، غير أنه دائمًا ما يعود إلى البقعة نفسها. للدقة هو لم يغادرها قط، بل لن يقدر على مغادرتها حتى لو أراد، إذ أنه محبوس فيها مثلما هي محبوسة بداخله، ممددة في تلافيف عقله السديمي.
شعر فجأة أن جسده صار خفيفًا وقويًا. غادره الشعور بالعطش، صار بإمكانه بلع ريقه بلا ألم. خُيِّل إليه أنه جرؤ على القيام، ونفض التراب والركام عنه. بدوَا ركامًا وهميًا وترابًا لا وجود له إلّا في خياله. حرّك قدميه متوجسًا، فاكتشف قدرته على السير. تفحص نفسه بحثًا عن أثر الجروح المفترضة، فلم يعثر عليها. كان قد توقع وهو قابع تحت بقايا جدار مبنى المكتبة أنه فقد ساقيه، والآن بينما يرى نفسه يحركهما، كأن شيئًا لم يحدث انتابه شعور مبهم بخيبة الأمل.
دار حول المكان، باستثناء الأنقاض التي نهض من بينها، لم يكن هناك ما يشير إلى الدمار. ران صمت مطبق، وبدا الهواء سميكًا كأنما يمكن الإمساك به والقبض عليه. واصل سيره، فلاحت له غابة من أشجار البلوط. دقق النظر في ما حوله، فاكتشف أنه أفاق منذ البداية بداخل الغابة، أو بالأحرى على أطرافها. أعطاها ظهره، وخرج مفتشًا عن مدينته. لا يمكن أن يعود هذا الركام لمبنى المكتبة المركزية حيث اعتاد أن يعمل على مدى السنوات العشر الأخيرة. لم يكن ثمة غابة بجوار مقر عمله، فقط حديقة بها ألعاب أطفال نادرًا ما يلعب عليها أحد.
خارج الغابة كان ضوء النهار كابيًا، مشي طويلًا دون أن يتعرف على المكان. غاب النهر، تلاشت الشوارع والميادين المألوفة، واختفت البنايات بلا أثر يدل على وجود سابق لها. انتبه إلى أنه يسير في مدينة مختلفة. لم يُوَاجَه بفراغ كما ظن لأول وهلة، إنما بمدينة أخرى لم يستوعب تفاصيلها لأنه كان مشغولًا بالبحث عن معالم مدينته الأم.
بعد فترة، لا يعرف مداها، توقف عن البحث. راح يجوس في الطرقات المظلمة، برداء داكن وقبعة تمنح وجهه بعدًا كابوسيًا مبالغًا فيه كان قد وجدها ملقاة في أحد الأركان. يقطع الدروب كقطعة من ليل، ويخطو كالمأخوذ حتى تبتلعه العتمة وتنغلق عليه.
عندما يصل إلى الميدان الرئيسي، يرى حلقة نار مشتعلة دومًا، يخترقها غير عابئ بالألم، وبداخلها، في الدائرة الكبيرة المحاصرة باللهب المتراقص، يبدأ رقصته المدوِّخة. يدور حول نفسه، ببطء أولًا، ثم يتسارع إيقاعه رويدًا، يرقب العالم عبر سياج النار المهتزة، وحين يتسارع دورانه، لا يكون للثبات مكان في عالمه. تضيع الحدود وتتلاشى الأشياء، وتواجه عيناه غمامة برتقالية مرتعشة تخالطها حُمرة مترددة وزرقة مائلة للإخضرار. يصير كالهواء، ولا يدري بنفسه إلّا وقد سقط مكوَّمًا على الأرض غير منتبه لحرارة تلسع وجهه ويديه، ولا لهسيس النيران المطقطقة، لأن ذهنه يكون مسحورًا بترنيمة ترددها جوقة غير مرئية، بأصوات شجية متناغمة.
ما إن يحل الصمت حتى يفيق الغائب عن الوعي داخل حلقة النيران. يدلك رقبته، وينفض الغبار عن ملابسه، ويغادر دائرة، أصبح الرقص فيها، طقسًا لا غِنى له عنه.
أصبح لا يكف عن السير البطئ في الطرقات، مفكِّرًا في ما لا قدرة له على فهمه. يحاول استعادة الترنيمة المصاحبة لإغماءاته المتكررة، فلا يفلح. يتشاغل عن عجز ذاكرته بأن يُملي – على الفراغ – رسائل لا نهائية، كل جملة فيها لا علاقة لها بما يسبقها أو يليها: اللامعنى في اكتماله!
“أن تكتب الرسائل يعني أن تتعرى أمام الأشباح*”. تتردد الجملة في ذهنه فلا يتذكر أين صادفته. يشعر بأنه شبح، بل فكرة الأشباح عن نفسها. لا ضرر إذًا ولا كبير مخاطرة في التعري أمام الذات، ثم أن هذه ليست رسائل، كيف تكون كذلك وهي مجرد جمل تفتقد الاتساق! كما أنه لا يكتبها، فقط يمليها على لا أحد. يبددها في الهواء.
ينتهي تجواله دومًا بالوصول إلى غابة أشجار البلوط الواقعة على أطراف المدينة والمنتهية بمنحدر لا نجاة منه. صارت المخبأ المثالي له. يتسلل إليها كل ليلة. بردائه الأسود الطويل وقبعته الغريبة يصبح هو والليل قطعة واحدة.
في الغابة، يتحول إلى متوحد يعيش لحظة بلحظة، ولا يكف عن التجوال بين جذوع الأشجار، حتى يصل إلى بقعته المفضلة في مركز الغابة التي تهب عليها الرياح فيُصدِر حفيف الأوراق صريرًا، يضاعفه صمت المكان، فيبدو كصراخ مكتوم. داخل الغابة المعتمة متشابكة الأغصان، يسير متذكرًا حياة سابقة كان فيها ناسكًا صينيًا، مُثَبِّتًا قلبه على جوهر الفراغ، وعارفًا بحكمة “الطاو”.
يتخبط بين جذوع الأشجار مستنشقًا روائحها المخلوطة بعطن الأوراق المتحللة بفعل المطر. في الصباح يتبلل بالندى فيغمض عينيه، ويرمي نفسه على الأرض الرطبة المظللة بالأشجار وهو يكاد يبكي اشتياقًا إلى كل ما لم يعرفه أو يقابله. لطالما تاق إلى الرؤية لا مجرد النظر، إلى التحديق في عين العالم، لكنه في عتمة غابة البلوط، ذات الصرير المنذر بالشرور، استعذب استحضار إحساس المحدِّق داخل ذاته والمنفصل عن ما عداه.
تروقه فكرة الغابة. المحيطات أكبر، والصحاري الممتدة بلا نهاية قد لا تُقارَن بها هذه الغابة من حيث المساحة، لكن الغابة – أي غابة – لا حدود لها في عين السائر بداخلها، تورثه الإحساس بأنه نقطة في محيط شاسع لا نهائي، تسلمه إلى التيه. ربما لأنها غامضة، كابية الإضاءة أو حتى معتمة في بعض مناطقها.
يغمض عينيه منصتًا لأصوات الغابة المتداخلة: حفيف أوراق، هسيس حشرات وهوام، نعيق غربان، نعيب بوم، وزمجرة حيوانات موشكة على الاقتتال على مبعدة. تتكثف رائحة العطن والرطوبة في أنفه ممتزجة بالرائحة العضوية لأشجار البلوط إذ يحملها الهواء الثقيل.
ينهض مواصلًا خطوه حتى يصل إلى طرف الغابة من الجهة الأخرى، حيث صخرة ضخمة تتوسط بقعة، يصلها الضوء بالكاد، يجلس فوقها مجترًا حيواته السابقة، وحالمًا بشخصيات وكائنات وعوالم مخترَعة. ينظر للأعلى فيبصر الأغصان الكثيفة وقد حجبت السماء، فيتخيل سماءً أخرى، ترتسم على صفحتها رسومات ملونة تمر مر السحاب وتُغنِي عنه. سماء مغايرة تحتضن عالَمًا أكثر ألقًا من العالم الحقيقي. أحيانًا يشعر بشوق مُحرِق لحياته السابقة كغجري لا يستقر في مكان، قبل أن ينفض الشوق عنه خوفًا من إمكانية تحوله إلى شهوة تتملكه، فيرحل طمعًا في إشباعها.
كأنما يحاول إقناع نفسه يقول: “يكفيني ما رأيت، وما سبق وعايشت في الماضي”. بات مقتنعًا بأن العالم بأسره حلم خطر له ولم يفق منه بعد. عاش سنوات طويلة – من حيواته السابقة – هائمًا على وجهه في الطرقات، وعلَّمه ترحاله أنه لن يتعلم منه شيئًا إلّا بالتعرف على ذاته أولًا والغوص فيها. “يكفيني ما رأيت”! يكرر بينما يتحرك بين جذوع الأشجار، أو يتخبط في شوارع المدينة الغريبة.
“يكفيني ما رأيت، وما سبق وعايشت في الماضي”! يُهيَّأ له أن الجملة ترددها خلفه كائنات تتخبط في فخاخ ووهاد لا نهائية، مثله تخترع عوالم سرعان ما تمل منها، فتعود لواقعها المحيط، وحين يلفظها تعيد اختراع عوالم جديدة، آملةً أن تُخرِجها في النهاية من تلافيف عقل ذلك الناسك المتخبط في عتمة غابة.
خلال عمله كأمين مكتبة، اعتاد أن يقضي معظم وقته بين الكتب منتظرًا روادًا محتملين. عرف أن الناس تفضل الذهاب إلى الشواطئ والمطاعم والحانات. راقب الغبار بينما يتراكم فوق المجلدات، ثم بدأ الانغماس في القراءة كأنما يواسي الكتب عن تجاهل الآخرين لها، ويعزي المكتبة الفارغة من الحياة معظم الوقت. تحول الأمر من عادة إلى إدمان. فكر في أن يكتب، شرع في مشاريع كتابية عديدة سرعان ما هجرها. “مكتبات العالم ليست في حاجة لإسهاماتي!” أقنع نفسه بهذا لأنه أدرك باكرًا أن الكتابة محاولة لنحت تمثال ثلج عند خط الإستواء. كلمات تذروها الرياح، تبجح وانخداع بوهم الخلود. وإيمانًا باستحالة مفترضة ورفضًا للتبجح والانخداع بوهم الخلود، فضَّل أن يكتب نصوصه على الهواء، أو يخطها على الرمال بيد مرتعشة، ويسارع إلى محوها في الحال. على طريقته الخاصة وبطقوس غير مفهومة لسواه، أخذ يمجد الفَنَاء ويتعبد في محراب العدم. لطالما كان وسوف يظل ابنًا مخلصًا للعابر والمتطاير.
ليس كغيره من المستسلمين للعدم منذ البدء غارقين في الكسل مدَّعين أن كسلهم هذا طريقتهم في التماهي مع اللاشيء، فمتعته القصوى تمثلت في الهدم بعد التشييد، في ملاعبة الرغبة في الإنجاز وتنميتها قبل السقوط بها ومعها من حالق لتتكسر إلى مئات الشظايا، ويتردد صدى تحطمها في المسافة بين الأرض والسماء.
مع الوقت، صارت له علاقته الخاصة بالسماء. سماء زرقاء ونقية ليس ما يبتغيه، إذ يفضل عليها سماءً تختلط زرقتها العميقة بأبيض السحب ورمادي الغيوم. من وجهة نظره، تشكيلات السحاب هي ما يمنح السماء رونقها ويضاعف غموضها ويمنع عن متأملها الملل.
سماء هذه المدينة الغريبة كتاب أبجديته الغيوم ومسرح يتطلب مُشاهِدًا فطنًا لالتقاط أرهف العلامات والعروض المُشفَّرة المقدمة بلُغة الخَفاء، لُغة الغيوم. حين يدقق جيدًا وينجح في فك شيفرات هذه اللغة، يرى في صفحة السماء: بيتًا معلقًا بين السُحب، امرأة في صورة وردة تتدحرج من فوق تل، ورجلًا وامرأة جالسين إلى مقعد يرنوان نحو بئر، خلفهما بستان زيتون وأمامهما صحراء شاسعة، وطفلة تطيِّرها ركلة لتصطدم بالجدار المقابل فتحترف بعدها السقوط من علٍ، وصغيرًا يتسلق الأشجار، وكوخًا خشبيًا – تتسلق عرائش الورد واجهته – على أطراف غابة.
كل هذا ليس محض تهيؤات، بل حقيقة ماثلة، تمامًا كمدينة خيالاته، هي موجودة وواقعية لأنها خطرت بباله، عقله المتعب أنشأها، وأضاف لها التفصيلة تلو الأخرى. حلم بها وسارت روحه في دروبها ومنحنياتها، بعيدًا عن ثقل الأنقاض ورائحتي البارود والاحتراق المحتلتين لرئتيه.
في ناموسه الشخصي، هذا أكثر من كافٍ كي يجعلها كاملة الواقعية، تمامًا كالأشباح المترائية له حين يغمض عينيه، ويحاول تناسي أنه لا يشعر بالنصف الأسفل من جسده.
ما عليه حين يرغب في إزاحة التراب والركام من فوقه، وإبعاد صدى الصراخ والعويل عن أذنيه، سوى إغماض عينيه وتخيل غابة متشابكة الأغصان. مظلمة ورطبة. جذوع أشجارها يعلوها فطر أخضر، وتتسلقها نباتات تكاد تخنقها. بالتركيز جيدًا في الغابة التي احتلت ذهنه لتوِّها، والتدرّب على التوهان بين دروبها المتقاطعة، سيرى نفسه فيها: شبحًا وحيدًا بملابس داكنة وقبعة تلقي بظل داكن على ملامح وجهه الحادة، شبحًا يترنح في سيره من درب لآخر. مع كل خطوة يخطوها قرينه الشبحي ستُشيَّد المدينة تدريجيًا في رأسه هو ثم أمام عينيه، وتحت أقدامه، بشرط أن ينفصل تمامًا عن وضعه الراهن ويتناسى آلامه ورائحة الموت المحلقة فوق رأسه. عليه تحرير قلبه من كل المشاعر الزائلة، وتثبيته على جوهر الفراغ، تمامًا مثل قرينه الشبحي، وحينها لن يسمو فقط فوق ضعفه وعجزه، بل سيكون أيضًا من العارفين بحكمة “الطاو”.
***
يغمض عينيه فتحرقانه كما لو مستهما مادة كاوية. يغيب عن الوعي، وحينما يفيق مجددًا، يشعر كأن هناك من يضرب رأسه بشاكوش. يهاجمه الجوع بضراوة، ويتضاعف التهاب حلقه. يتذكر كيف كان يفضل تناول غداء سريع من عربة طعام في ساحة بيع المأكولات القريبة من مقر المكتبة: يشتري سلاطة خضراء في عبوة بلاستيكية وشطيرتيّ “هوت دوج” أو “هامبورجر”، ويقطع الطريق ليجلس فوق مقعد رخامي مثبت على رصيف الكورنيش. يدير ظهره للشارع، ويلتهم غداءه بشهية بينما يرنو نحو النهر متأملًا الجانب الأحدث من المدينة على الضفة الأخرى. مع الوقت، باتت تلك عادة لا غنى له عنها في استراحة الغداء. أحيانًا تجلس بجواره على المقعد نفسه أو على مقعد مجاور شابة تتناول طعامها بسرعة ثم تغادر. اعتاد مراقبتها وهي تعبر الشارع متفادية العربات برشاقة لاعبة أكروبات. قرر أكثر من مرة أن يبادرها بالحديث، لكنه كان يؤجل هذه الخطوة بحجج متنوعة. بالأمس فقط قال إنه سيتعرف عليها في الغد، أقنع نفسه أنه رآها أكثر من مرة تختلس النظر له حين تظنه غير منتبه لها. لمحها تبتسم لنفسها وهي شاردة فأعجبته بسمتها، وحين التقت عيناهما أحب ألق نظرتها.
ضاعف التفكير فيها من أوجاعه، حاول تحريك يديه، فلم يفلح. أطبق جفنيه وعاود التفكير في مدينته المتخيلة. راقه أن تكون معالمها متغيرة على الدوام، وأن تغيرها المفترض هذا، لا يسير وفق نموذج منتظم يمكن التآلف معه وتوقع خطوته التالية، بل يترك نفسه للفوضى متحالفًا معها راقصًا على ألحانها.
لا بد أن التركيز في مجريات التبدل الدائم يُسلِم إلى الدوار، لذا لا عجب إن غصت طرقاتها بأجساد مترنحة لا تكاد تقوى على المسير. تخيل نفسه يقوم من بين الركام مجددًا، ليواصل سيره في ممرات الغابة ودروب المدينة. قرر أنه وحده من يتقن التعامل مع دوار المدينة المتأرجحة متبدلة المعالم. يقطع شوارعها غائبًا عمّا حوله غافلًا عنه، ومحدقًا في نقطة ثابتة في الفراغ المواجه لعينيه.
في غفلته وتوهانه تتراءى له مشاهد حيوات سابقة يوقن أنه عاشها وتنقل فيها من حال لآخر ومن هيئة لأخرى. تخاتله شذرات حيواته وشظاياها وتلعب معه:
مَرّة راعي غنم، يعيش فوق إحدى هضاب آسيا الوسطى في عصر بالغ القِدم، لا شيء حوله سوى مراعٍ بلا نهاية، وتغريد طيور بعيدة، وعواء ذئب اعتبره عدوه الأول خوفًا على أغنامه.
تزوره هذه الذكرى، فينقبض قلبه: ما أبأس حياة تتمحور حول قطيع غنم.
ومرة أخرى كان ريفية في قرية يغمرها الظلام في دلتا النيل، قبل قرون. امرأة وحيدة تخاف فيضان النهر، وتقيم في بيت طيني معزول، تسهر الليالي مترقبة أصوات الخارج، خائفة مما قد يفاجئها به الليل الحالك – صديق النباح والعواء والعويل – الذي باغتها يومًا بطرقات على بابها الخشبي المتهالك، وبغريب داكن يطلب منها مكانًا يبيت فيه، وقبل أن توافق أو ترفض، بادرها بالدخول والجلوس على حصيرة الأرضية، وانشغلت هي بالتفكير في طريقة لإقناعه بالمغادرة.
يشعر أنه لا يزال تلك المرأة، بطريقة أو بأخرى، ثم تغيب الذكرى وتضمحل.
كان أيضًا نحاتًا في جزيرة الفصح يجلس متعبًا فوق قمة ما يتأمل ثماثيله هائلة الحجم، وينظر للأسفل فتتملكه رغبة في السقوط وفي تحطيم كل ما ضيَّع عمره في نحته، وكان جنديًا صينيًا قديمًا يركض فوق سور الصين العظيم – بعد هلاك حصانه – لإبلاغ قائده بزحف العدو صوب مدينتهم.
أي عدو؟ وأي مدينة؟ لا يمكنه الإجابة.
في قرية أسيوية منسية، كان طفلة حافية تحرس حقل أرز. تهش العصافير عن السنابل المثقلة بالحب. كان ثمة عصي متوازية، بامتداد الحقل، موصول بها أسلاك معلق فيها علب صفيح بداخل كل منها قطع معدنية صغيرة، تهز الطفلة طرف أحد الأسلاك فتتصاعد قرقعة معدنية مزعجة. تفزَع العصافير وتحلق بعيدًا، قبل أن تعاود هجومها بعد قليل، والطفلة تجري متعبة من ناحية لأخرى تقرع الأسلاك صانعة الضجيج، فتبدو كموسيقيّ منهمك في العزف على آلة عملاقة. تستفزها خيالات مآتة تقف الطيور فوقها بلا خوف، ويضايقها عطن المياه في الحقل الشاسع، فتغمض عينيها حالمة بوجبة ساخنة ليلًا ونوم تحملها أحلامه إلى عالم خالٍ من الضجيج المعدني ومن خيالات المآتة والعصافير.
لكن أفضل شذرات حيواته السابقة، تلك الموحية له بأنه كان دودة قز يومًا ما. يتخيل نفسه دودة نهمة في براح من أوراق التوت الشهية، يلتهم الوريقات حتى لا يعود قادرًا على التنفس، ثم ينسج شرنقة من خيوط الحرير يختفي بداخلها. ياللهشاشة والجمال، وحده في دفء الشرنقة وظلامها ينتظر أن يختار له القدر أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن ينبعث من شرنقته فراشةً حرة قصيرة العمر تشتري حياتها بتدمير ما نسجته من جمال حريري، أو أن يسبقه صانع حرير ويغرقه، وهو داخل شرنقته لا يزال، في ماء ساخن كي يتخلص منه وينقذ الخيوط الثمينة من التدمير.
أي فداحة! وأي بهاء متوارٍ خلفها!
***
يشعر بتيبس جسده، تسحبه ضجة قريبة من أفكاره، يأمل أن تكون دلالة على حياة محتملة بالجوار، ثم يخمن أنها ناجمة عن انفجار محدود على الضفة الأخرى للنهر. يتضاعف تيبس جسده. يعن له أنه مشلول بالكامل، لا شيء قادر على الحركة فيه سوى مقلتيه وأفكاره، لكن حركة مقلتيه لن تفيده كثيرًا لأن ما يراه مهزوز وغير واضح.
يفكر في قطار – يعمل بالفحم – يجوب مدينة خيالاته من أولها لآخرها، يتوقف بالصدفة أو حينما يروق الأمر لسائقه والأمر نادر في الحالتين. عبر نافذة القطار فقط تثبت معالم المدينة نسبيًا، بحيث يمكن لرواده القليلين، تأمل المشاهد المتلاحقة بالخارج. المشكلة الوحيدة، أنه من داخل القطار، كل شيء يبدو بالأبيض والأسود مع الكثير من الرمادي العالق بينهما. القطار المتهالك، السائر دومًا في مساره الحديدي المربع على حدود المدينة، يخرج منه كم هائل من دخان يطغى على كل شيء، فتتحول السحب إلى تشكيلات فحمية منذرة بالشر، والأشجار إلى كائنات داكنة عملاقة، تحركها الرياح، فيخال لمن يشاهدها أنها على وشك السقوط فوق الماكينة المتهالكة وركابها.
من حسن الحظ، أن المنظر من خارج القطار مختلف، فالألوان كما هي، متمسكة بتنوعها والاختلافات بينها. ثمة فقط غبار دخاني فحمي اللون ينطلق من المدخنة المتحركة، قبل أن يتلاشى في الهواء.
ما أن يصغر القطار ويغيب، حتى يتمنى الناسك العارف بالطاو أن ينكسر ويتحول إلى ركام، أو يسقط من فوق المنحدر الخطر ولا يراه أحد بعدها. فالمدينة لا ينقصها ضجيجه الدافع للجنون.
يحلو له أن يركبه لساعات طويلة. ينهمك في العزف على آلة يتبدد نغمها ما أن ينبعث منها، دون أن يتأثر  هو أو حتى ينتبه. يفكر في أن سقوط القطار، لو حدث، سوف يناسبه حتمًا، إذ سيمنحه مادة مناسبة للتأمل، إضافة إلى أنه لن يصاب بسوء. سوف يجد سريعًا طريق العودة إلى الغابة المظلمة، وفيها سوف يحلم بالقطار ويشتاق إليه، وفي القطار يتمنى السقوط والتدحرج إلى ما لا نهاية، أما داخل حلقة النار فيغيب عن كل ما يعرفه، ويتوحد بالنار ناظرًا للعالم عبر اهتزازات لهبها، منغمسًا في ترنيمة ينساها ما أن يفيق.
على مهل، تخفت المدينة بقطارها وغابتها المعتمة ودوارها في عقل الراقد بين الأنقاض. يستحضر جلسة غدائه اليومية، إحدى المتع القليلة في حياته. يكاد يرى شابة برشاقة لاعبة أكروبات قادمة نحوه مبتسمة. تجلس بجواره، تتأمل مثله نهرًا تغلي مياهه وتتصاعد منها أبخرة نحاسية كريهة الرائحة. تُخفي الطائرات المعادية السماء ويتجدد القصف، يقبض على يد جارته مطمئنًا إياها، وممتنًا لأنه – هذه المرة على الأقل – ليس جاثيًا على ركبتيه بين ممرات مكتبة مهملة.
.
(فصل “ناسك في غابة” من رواية “أخيلة الظل” الصادرة عن دار التنوير عام ٢٠١٧؛ الفصل يبدأ بإهداء: “إلى كاميليا مجدي الظل مرآة يرى الضوء فيها وجهه ممعنًا في غيابه!” متبوعًا باسم الشخصية: آدم كوستاكي. جملة “أن تكتب الرسائل يعني أن تتعرى أمام الأشباح” لكافكا.)