
Gabriel Grun, La Pequeña Aracné. Source: macabregallery.com
لا أعرف لماذا تذكرت ليلة الإثنين قبل ما يبدو كأنه الأمس، عندما أنزلتُ جسد أمي المعلق من السقف المهترئ. كنت أفكر، عندما رأيت شفتي ابن عم باسل تتحركان وتنقلان نبأ الموت قبل خمسة أعوام، بأنني في الحقيقة لا أريد الاستمرار في العيش لكنني لا أريد أن أموت.
***
لا أبالغ إذا قلت إن باسل باسل الصديق ليس رجلاً بمعنى الكلمة، ولا يرتقي حتى لمرتبة كلب. كان مع أخيه محفوظ بوابة أغرب حدث مر في حياتي منذ ليلة الإثنين تلك.
عندما أتى باسل إلى العيادة التي بدأت في العمل بها أول ما قدمت للمدينة عام ١٩٩٦ وطلب مني الكشف عليها، لم أمانع. في اليوم التالي كنت أمام منزله منتظرًا أن يفتح لي الباب.
باسل باسل الصديق ومحفوظ باسل الصديق أخوان من عائلة الشامخ المعروفة في المدينة. كانت تجارة آل الشامخ إحدى ركائز اقتصاد المدينة الحديث. عندما دخلت الغرفة الصغيرة تحت الأرض ورأيتها، وقعت في حبها كما يحدث في الأفلام تمامًا. قال لي باسل على الدرج إن حالة أختهما حواء نادرة، وإنه لا يجب عليّ أن أقول لأي أحد عليها دون الرجوع إليه ومحفوظ أولًا. باب الغرفة كان مصنوعًا من الحديد وكان موصودًا بعدة أقفال. أنا لا أعتقد أن أي طبيب رأى في حياته مثل هذه الحالة.
حواء امتلكت رأسين؛ أقولها بعد مضي أعوام من أول مرة رأيتها في حياتي ولا أكاد أصدق نفسي. أنا لم أفهم ما أراده مني باسل بالضبط لكن بعد ساعة من الكشوفات عليها، اكتشفت أن لديها ما يشبه القلب في رأسها الثاني. بدت وظائف حواء الفسيولوجية على خير ما يرام، فماعدا رأسها الثاني لم تبد أنها تواجه أية مشاكل صحية. عندما انتهيت من الكشوفات، حدث شيء جعل شعر جلدي ينتصب رعباً.
في اللحظة التي قمت فيها من السرير سمعت صوتًا غليظًا، أتى من اتجاه حواء: “إذًا يا دكتور، ما هي نتائج كشوفاتك؟” ضحك باسل لبضع ثوان على مشهد صدمتي، أعتقد أنني سقطت على الأرض عندما رأيت الرأس الثاني لحواء مكان الرأس الأول. “لا تخف يا دكتور، أنا محفوظ باسل الصديق، حواء بالداخل ولن تظهر إلا عندما أسمح بذلك. إذًا ما هي نتائج الكشوفات؟” سألني مجدداً.
لا أحد من معارف آل الشامخ كان قد رأى محفوظ سابقًا. فكما علمت من محفوظ، قام والدهم بإخبار الجميع أن ابنه يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل معهم من هناك. أما حواء فلا أحد يعرف أن آل الشامخ لديهم ابنة من الأساس.
أنا لا أعرف السبب وراء ثقة آل الشامخ بي والتعاقد معي لأكون طبيب محفوظ وحواء. ربما لأنني كنت غريبًا ولا أحد سيصدقني إذا تفوهت بأي شيء، أو ربما لأن محفوظ ارتاح لي. بعد مدة اكتشفت أن الرأس وراء نجاحات تجارة آل الشامخ تعود لمحفوظ. أنا لم أقابل في حياتي رجلًا أذكى منه. أما حواء فقد كانت أقل حيلة لكنها أكثر لطفًا، كانت عفوية كالفتيات الجميلات اللاتي أراقب لعبهن في الحديقة من نافذة مكتبي.
أكذب إذا قلت إنني لم أفكر بجسد حواء أول مرة رأيتها، كانت بيضاء ونضرة مثل جورجينا رزق، كانت تشبه أمي. “يُعجبك جسد حواء؟ أليس كذلك يا نور الدين؟” سألني محفوظ ذات مرة. “لا تكذب عليّ، لا بأس، حواء معجبة بك أيضًا.” عندما بدأنا ممارسة الحب، قال لي محفوظ إن والده إذا علم سيقتلني، أما باسل فلا خوف منه، فهو كلب تحت قدميه.
اعتقدت خلال تلك الفترة أنه ربما، أعني ربما، يمكنني العيش بشكل طبيعي معهما إذا أمكننا الخروج من البلد.
لكنني كنت أعلم أن ذلك مستحيل. كان عليّ أن أعرف أن مسألة اكتشاف باسل لعلاقتنا هي مسألة وقت. عندما حدث ذلك، أرسل باسل عدة رجال إلى منزلي. أخبروني أنني إذا تجرأت على العودة لمنزل آل الشامخ مجددًا، سيقتلونني. أستطيع تذوق طعم معدن رأس المسدس في فمي إلى اليوم، لسبب لا أفهمه. قضيت تلك الليلة ألعق جروحي في المستشفى المركزي. بعد أن خرجت بقيت في المنزل قرابة الشهر، مخدرًا تمامًا. لولا الأمفيتامين، لا يمكنني التكهن بما كنت سأفعله.
“ماذا لو كان عندي رأسان، هل سترغبين بي عندها يا كلير؟”
تلك الفترة كنت في علاقة مع ممرضة فلبينية تعمل معنا في العيادة، وقد كانت تأتي لزيارتي من حين لآخر. في البداية كنت أدفع ثمن الليلة، لكن بعدها توقفت عن ذلك وهي توقفت عن طلب المال. كنا نشرب وندخن ونأكل الأمفيتامين بكثرة ذلك الشهر. لم أخبرها قط عن حواء ومحفوظ ولا أعرف لماذا كنت متأكدًا أنها تعرف. أنهت كلير علاقتها بي عندما حاولت خنقها ظنًا مني أنها الشيطان. بعد تلك الحادثة توقفت عن تناول الأمفيتامين وقررت المضي قدمًا بحياتي، ومغادرة البلد بأي طريقة ممكنة.
***
تحصلت بفضل أحد زملائي في اسكتلندا على فرصة عمل في مستشفى هناك. أنا مدين بحياتي للسيد سليمان قناو، الذي ساعدني في الغربة دون أي سبب يذكر. حدث كل شيء كما هو مقدر، تزوجت ابنة أحد أطباء بلدنا وتحصلت على دوام كامل وانتقلت من الإيجار إلى الاستقرار.
أنا لم أقل إلا للسيد سليمان قناو على ما حدث لي مع آل الشامخ، تفاجئت أنه لم يفاجأ بروايتي. ذلك اليوم علمت أن دماء حواء ومحفوظ لا تجريان في عروق آل الشامخ. قال السيد قناو إنه لا أحد يعلم الحقيقة بالضبط، لكن عددًا قليلًا من الناس المقربين جدًا للوالد يعرفون أن زوجته توفيت بعد ولادتهما مباشرة، وأنه متأكد أن محفوظ وحواء ليسا من دمه بل من دم الشيطان. لكنه لم يتجرأ على قتلهما أو رميهما، لأنه كان مؤمنًا أن هذه تجربة من الله.
“الشيطان بذاته تجربة من الله،” قال السيد سليمان قناو في نهاية حديثه.
في مرحلة ما من حياتي في غلاسكو، كنت أسبح بعيدًا عن الواقع في الذاكرة، شدني استبداد الماضي، ربما لأنه الشيء الوحيد الذي لا سيطرة لي عليه مهما حاولت. لقد أراحني العجز المستحيل. عند نقطة ما في أيامي معهما، عبدت محفوظ وعشقت حواء. كانا المثالي. لا أعتقد أن أحدًا يمكنه القول إنه قابل إلهًا في السابق. محفوظ انغمس في ألوهيته، وحواء بدت كأنها ابتلعت حوريات الفردوس كلها عند ممارسة الحب.
***
عندما مات ابني الوحيد قبل خمسة أعوام، دعوت محفوظ أن يطلب من الله إعادته لي. كان بالنسبة لي الأقرب للسماء من السماء بذاتها. أنا لم أقل لزوجتي عنهما. وعندما أعطيت اسميّ محفوظ وحواء لابني وابنتي، قلت لها إنهما اسما جديّ. أنا لم أملك عائلة في حياتي ما عدا أمي التي تركتني وأنا في الرابعة. لا أعرف من هو أبي، ولقبي الذي أملك هو اللقب الذي أعطوه لي. لحسن حظي، عائلة زوجتي لم تهتم بالبحث في ماضيّ وكشف أمري، لربما كنت محظوظاً أكثر مما أظن.
انحرف الهدوء لهلع بعد موت ابني، زوجتي دخلت إلى عالم العقل المظلم، حيث تعجز كيمياء المصنوع عن الثأثير. كل محاولاتي لسحبها من هناك فشلت. بدا كأن هناك لعنة حلت بنا. بعد موت ابننا، مات والدها. بعد ثلاثة أشهر ماتت والدتها. الموت لعب الدومينو بنا.
طوال تلك الفترة انتظرت اكتشاف لحم زوجتي المعلق من السقف في أية ساعة. لا أعرف لماذا اعتقدت أن ابنتي تنتظر مثلي أيضاً، ولا أعرف لماذا أخبرت ابنتي عن أمي، إلا أن ردة فعلها أراحتني.
“بابا، كل شيء لن يكون بخير، على الأقل مازلنا نملك بعضنا البعض،” قالت لي بينما تجلس على الكرسي بجانب كرسي قيادة السيارة، حيث انعكس وجهها على عينيّ، وعلى النافذة بجانبها، والمرآة الجانبية، وعلى الأرجح على السماء، ووجوه ميكانيكيي الموت العميان في القاع.
هاتفتني ابنتي وأنا في طريقي للمستشفى ذات مساء. “بابا، ماما ماتت،” وأقفلت الخط. شعرت بنضارة القدر في أجواء الظلمات، أن مصير زوجتي لا يشبه على الإطلاق مصير أمي. من يعرف من أين تحصلت على المسدس. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أفكر في أنها ستفنى برصاصة في قلبها.
“هل تؤمن أنه لا يوجد موت؟” سألني محفوظ ذات مرة بعد أن أخذ مكان حواء.
اخترت الصمت عندها وتركته يتحدث في ظلام الغرفة الموصدة. كانت الخيالات تمر بجانبنا وتتلاشى، شعرت بها ولكنني لم أرها. إنه نفس الشعور عندما يمر الناس بقربي ولا أراهم إلا في النهاية، ما عدا أنني في تلك الغرفة لا أراهم أبدًا. لم أؤمن بما قال لأنني لم أفهم كلمة واحدة. لقد رأى من خلالي، أعرف ذلك، شاهد عينيّ تحدقان في نهدي حواء. كنت شبقًا كاللقيط في خضم الانتصار لشرف والدته. لم يقل لي، ظلَّ يتحدث. وظلت الخيالات تمر بجانبنا.
تذكرت المشهد عندما رأيت الدماء حول جسد زوجتي. ابنتي وقفت أمامي. كلانا شعر بخيال زوجتي يخرج من خلال شرفة غرفة النوم ويتلاشى في السماء. أعيننا لاحقت إحساسنا بحركة ما لا نراه. لم أتذكر ما قاله محفوظ جيدًا، لكنني أعتقد أنه قال في جزء ما إن الموت هو ما يجعلنا نحيا والحياة هي ما يجعلنا نموت، أو شيئًا من هذا القبيل. أنا لا أفهم، وهذا لا يزعجني قط.
***
بعد العزاء بيوم زارني السيد سليمان قناو برفقة رجل غريب. “هذا محمد محمد الشامخ،” قدمه السيد سليمان قناو. أخبره إنني كانت عندي علاقة بعائلة باسل الشامخ، لم أنف ذلك عندما جلسنا وسألني عن علاقتي بهم. “كنت طبيب العائلة،” قلت له. سألني إن كنت طبيب محفوظ أو حواء. لابد أنه يعرف، قلت في نفسي.
روى الرجل ما حدث لآل الشامخ. أصاب والدهم مرض. لا أحد من الأطباء استطاع تشخيص مرضه. اعتقد والدهم أن الشيطان يقتل عقله، ولكن لم يصدقه أحد. “الشيطان ربح، الشيطان هنا،” كان يهذي العجوز.
في إحدى الليالي حسب رواية أحد حراس المنزل، دار شجار في منزلهم. سُمعت صرخات فتيات. منزل آل الشامخ ليس به نساء غير حواء التي لا يعرف الكثير أنها موجودة، أما باسل فلم يتجرأ مرة في جلب مرضه بالفتيات الصغار إلى منزل والده. احترق المنزل بعدها، ولم تجد الشرطة إلا جثة باسل باسل الصديق. سارت إشاعة بين معارف وأقرباء العائلة أن الوالد قد غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى ابنه محفوظ لتلقي العلاج، وترك التجارة كلها تحت إدارة باسل. “أنا أعتقد أن علاقة باسل بعصابات المخدرات هي التي أدت إلى مقتله وانهيار تجارتهم،” قال الرجل في نهاية حديثه.
“هل تؤمن أنه لا يوجد موت؟” سألني محفوظ في ذلك اليوم. ربما لا يوجد حقاً، ربما لم يموتا، ربما كان محفوظ ألوهيًا كما اعتقد وكما أعتقد، ربما صعدوا جميعًا إلى حيز ما يفوق معرفتي. لكن لا توجد حقيقة عندما يتعلق الأمر بمصائر الخفاء. أنا لا أعرف ولا يهمني إلى أين ذهبوا، لكنني متأكد تمامًا أنهم جميعًا لم يعودوا معنا على هذه الأرض.
في هذا الصباح الهاديء، أنظر إلى ابنتى حواء نائمة فوق سريرها تتنفس ببطيء وسهولة. جسدها اليافع يملأ هواء الغرفة، لعلها تحلم بعالم مواز تضمحل فيه المأساة أمام السعادة. ربما هناك في عالمها لا قلق، ربما أمي هناك، تنتظرني بيضاء الجلد ومبتسمة مثل انعكاس ابنتى لحظة ولادتها، مغمورة في دفء نابض مثل الدم الذي يجري في عروقي. الآن أستطيع أن أرى كم كنت محظوظًا رغم أشواك الشياطين في الطريق.
Like this:
Like Loading...
тнє ѕυℓтαη’ѕ ѕєαℓ. Cairo's coolest cosmopolitan hotel.