كان يومي يبدو اعتياديا، كأيام كثيرة قبله. قضيته في العمل، أرتشف القهوة باستمتاع، أنظر من نافذتي إلي النيل، أفكر في فراغي العاطفي وخططي المسقبلية. لكن حين عدتُ إلي المنزل، تبدل الأمر كليا، كانت عادتي حين أصعد سُلم الطوابق الخمسة في البناية، أن أستند بذراعي علي الحائط مستجمعا أنفاسي ثم أطرق الباب. هذه المرة قبل أن أستند، جُذب الباب إلي الخلف مرة واحدة، ظهرت أختي علي يسار الباب بجسدها النحيل ونتوء حملها الذى بلغ الشهر الثامن ثم أمي البدينة في الوسط وجدتي القصيرة تتكئ علي عصاها وتبعد عن أمي قليلا علي اليمين. في نهاية الصالة، كان هناك مصباحا ضعيفا لا ينير ظلمة حجرة الجلوس. صاحت أختي: “أنا عرفت إنك سرقت النوم من صالح”، تبعتها “أنا كمان” من أمي بصوت أكثر انخفاضًا ثم صوت جدتي لا يسمع. نظرتُ إلي الأرض وحاولت تجاوزهن سريعا، إلا أنهن أحطنني ثلاثتهن، كانت رائحتهن واحدة، تشبه الأكل السليق، كن يضربن بأطراف أصابعهن علي جبتهي، ومع كل ضربة كنتُ أبتسم في نفسي كأن الضربة ستعيد لصالح نومه. قلت بغل: “مساكين”، وبخشونة تملصتٌ منهن، وذهبتُ إلي غرفتي.
كنتُ ملعونا، لا أستطيع النوم كالناس الطبيعية. وفي يوم أتى صالح إلى منزلنا ثم نام في غرفتي ومن حينها تبدل حالي تماما. قبل أن يأتي صالح،كانت مخاوفي متعددة ومتغيرة. في البداية،كان هاجس الموت يتملكني، أن روحي قد تطير مني في أي لحظة، فكنتُ أتخيل المنافذ التي قد يأتي منها عزرائيل ولا أترك نافذة مفتوحة ولا عقب باب إلا حاولت سده. وعندما أفشل، بسبب أمي أو جدتي أو أن هواء ربنا جميل، كنتُ أخرج سجادة الصلاة، وأصلي حتي التعب. قد أغفو لدقائق، ثم أستقيظ مفزوعا كمن وقع في خطيئة كبيرة. وفي يوم جاء عزرائيل وبدلا من أن يأخذ روحي أخذ فكرة الموت، وبدل لي مكانها بكائنين في حجم عقلة الإصبع، أحدهما رفيع تمامًا لونه كسن الفيل، والآخر بيضاوى الشكل لون القهوة. كلما أغلقت عيني يحاولان فقعهما، لذلك كنتُ أقضي ليلتي مبرقا في السقف، حتي إذا غفوت لدقائق وعيني نصف مفتوحة، يأتيان لي في الحلم، وأضرب بقوة حتي تتفتت رأسيخط فكنتُ أستيقظ وفي رأسي صداعا شديدا. حتي أتي صالح في ليلة، كي يصالح أختي ويعيدها إلي منزله. وبعد العشاء، أصرت جدتي أن يبيت معنا، فنام في غرفتي. ومن يومها أصبحتُ أنام بسلاسة.
ما أكد لي أمر السرقة، ليس إمكانية النوم لمدة طويلة، بلا جسم ساخن أو رغبة عارمة في تقطيع لحمي ولكن كوني أصبحتُ كالمخبر يتطلع من فتحتين في الجريدة علي حياة صالح، ككابوسه المخجل الذى لا يفارقه منذ الصغر، سرقاته القليلة من دكان البقالة، الاعتداء الجنسي الذى تعرض له في المدرسة، النساء اللواتي عرفهن قبل وأثناء زواجه من أختي… لكن كل هذا لم يشغل بالي، فما المميز في حكايات تتشاركها مع آخر؟ لا أنكر استغلالي لها في مناكفة أختي، أسرد لها شيئا ثم أنصرف إلي غرفتي صامتا ولا أرد علي أسئلتها بعد ذلك. بعد فترة ، تعود إلينا وتحت عينيها كدمات زرقاء من الضرب. ما يهمني حقا، ما لا يعرفه صالح، إنه قبل أن يكون “صالح أحمد العجمي”، كان “أحمد خليل خطاب” أو “أحموده” كما كانوا يدللونه، كان كل يوم ، في التاسعة صباحا بعد تناوله للإفطار، يجر دراجته ذات السنادات، من غرفته في الطابق الأول أمام البوابه البناية، يمتطيها ويظل يدور حول نفسه، يرى الخطوط الدائرية التي تشكلت علي الأرض. كانت تلك الخطوط تلهمه، ويحاول أن يربط شكل تلك الخطوط بحياته المستقبلية، إلا أنه أصابته بالتيفود حالت دون ذلك. توفي وهو لم يتجازو الثامنة، دون أن يتحقق من صحة ما توقعه. ولا يعرف إنه قبل أن يكون أحمودة، كان فتى مدام إيمان الوشيك. كانت المدام المتزوجة حديثا، والتي تسكن علي مسافة خمسين متر من منزل أحموده، تمرر يدها علي بطنها، وتحلم بالولد الذى سيصنع لها طائرات ورقية، ليطيراها سويا في شهر رمضان. عاد الأستاذ زوجها حمدى قبل أذان العصر بقليل، يحمل معه فخذه خروف ألقاها علي رخامة المطبخ، وأبلغها بعدد المدعويين علي إفطار اليوم. كانت كالنحلة تنجز أعمالها كسيدة الولائم . عند أذان المغرب وهي تجهز السفرة، انكسر طبق شوربة علي يد مدام إيمان وجرحها، واساها الأستاذ حمدى وقبّل شفتيها، وبعد انتهاء الإفطار وانصراف المدعوين، نزل الجنين في المرحاض. هناك أسطورة عن بقاء الروح لمدة طويلة في المصرف، قبل أن تنتقل إلي رحم أم أحموده، لكني لا أؤمن بالأساطير. ولا يعرف صالح إنه بعد أن يموت، ستنتقل روحه إلي شجرة تبعد خمسة امتار عن قبره .
لم أعد أعرف ما عليّ فعله وقد علمت النساء الثلاث بسري. هل سأكون آمنا إذا بقيت في المنزل. لا أستطيع ضمان ذلك، فأنا أعرفهن جيدا شرسات مع الأقرباء ، مغازلات للغريب. كنتُ ممدا علي سريري، واضعا ذراعي علي جبهتي، أسمع نحيب أختي قادما من الخارج، أنظر في المرآه التي أمامي، متطلعا إلي وجهي شديد البياض، وعيني المدفوستين وسط خدي الممتلئين. راحة البال والنوم الطويل خلقا لي شراهة غير طبيعية علي الأكل. ابتسمتُ ابتسامة سخيفة جدا. كنتُ لامباليا. لم يثير نحيب أختي في شيئا. حياتها مع صالح كانت عذابا مهلكًا. الآن كلما جلست علي كنبة الصالة الزرقاء ومسكت سماعة الهاتف وبدأت تقول بلهفة ممزوجة ببكاء هاديء “أنا بحبك، أنا بحبك”، كنتُ أَضع إصبعي في فتحة أذني. أشمئز عندما أسمع شخصا يعبر عن مشاعره. بعد انتهاء المكالمة التي يسمعها صالح فيها فقط دون أن يتكلم، تحكي عن التغير الذى أصاب صالح. كانت تستقيظ في وسط الليل فتجده ينظر إليها بعين مُحبة ثم يمسد شعرها، بحنان لم تكتشفه فيه إلا مؤخرا، ثم عندما أوسع نطاق محبته ليضم كل المحيطين به، كان يحل الخلافات بين الناس. يود الأرملة، يعطف علي اليتيم. عند الضحى، كان يخرج إلي الشارع يطعم الحيوانات. كانت تقسم بأن الطيور كانت تشرب من يده، ثم أصبح منخولا: عين لا ترمش، لسان لا يتكلم، قضيب لا ينتصب، رجل لا تتحرك. جاء إخوته أخذوه بعيدا، وطلبوا منها العودة إلي منزل أهلها. تبكي قائلة إنها لا تستطيع أن تكون ترابا تحت قديمه.
سمعتُ “آه” كبيرة خرجت من أختي، ثم تبعتها أمي بـ “يا ابني”، ثم صوت جدتي الذي لم يسمع. لم أجرؤ علي الخروج من غرفتي، كنتُ ألتصق بالباب مسترقا السمع، مستوضحا ما يدور في الخارج. حتي اتضح لي الأمر. مات صالح في المشفي. أغلقت باب غرفتي بالمفتاح، ثم الإضاءة . تمددتُ علي السرير، وذهبت في نوم عميق.
صباحا، سمعتُ طرقا علي الباب. كانت أمي. أخبرتني بضرورة ذهابي معهن إلي العزاء. حاولت التهرب منها لكني فشلت. كانت الشمس حارقة لا تتوقع هبوب أي نسمة هواء، ترعى تحتها كثير من الماعز السائبة. كان شكل هذه المقابر غريبا. تتكون من دورين. فم المقبرة يقفل بباب حديد. لون باب الدور الأعلي أزرق، والأسفل وردي. وعند نهاية كل مقبرة توجد شجرة طويلة، ترمي ظلها علي السطح. كنتُ أقف متخشبا من لالتصاقهن بي. النعش مفروش علي الأرض أمام المقبرة المفتوحة، ومن حوله الحاملون، مرتدين ألوانا مماثله للون فوهات المقابر، قميص بنفسجي وبنطال أزرق. كلما قتربت معزة من النعش أبعدها أحدهم بعود خشب حصاة. بعد انقضاء درس العظة، رفع الحاملون جسده، فدفعوني
إلي الأمام. دار الحاملون حول المقبرة مرة، الثانية، الثالثة، الرابعة. في كل مرة كانوا يدفعونني إلى الأمام، حتي أصبحتُ مقابلا للمقبرة المفتوحة. ندت صرخة كبيرة من أختي، كانت صرخة الطلق. قلت لنفسي: “أختي ستلد الآن”. وكأني كنتُ أذكر نفسي بشيء نسيته تماما. رددتها ثانية، وأيقنتُ أن الولد القادم آت ليسرق مني النوم.