
By Youssef Rakha
أمامك رجل جالس أمام نافذة مفتوحة على كرسي جلس عليه معمر القذافي أيام الأحد للكتابة. فوق رأسه صندوق به ثلاث فتحات: فتحة كبيرة لفمه، واثنتين لعينيه.
صوت سيجارة تحترق بين شفتيه. دخان أبيض يمر من فم الرجل عبر النافذة إلى سماء ليل المدينة. الغرفة مظلمة. أربع زجاجات فارغة ملقاة بجانب الكرسي. زجاجة في يده بها شراب ذهبي يُشع بانعكاس الضوء الأصفر من مصابيح الشارع. الرجل عار. أصوات ساكسفون تصدر من مسجلة قديمة وسط الغرفة. نايما اسم الأغنية. عازف الساكسفون هو جون كولترين. ينهض الرجل من على الكرسي. يضع الزجاجة على الأرض. يأخذ آخر نفسٍ من سيجارته. يلتفت برأسه للخلف. يبتسم ابتسامة صغيرة. ينظر أمامه ومن ثم يتراجع عدة خطوات للخلف. يركض صوب النافذة، ويقفز.
الدقيقة الثالثة وست وأربعون ثانية من الأغنية. الساكسفون في أوجِه. كولترين في ذروته. صوت ارتطام شيء على الأرض. لا يسمعه أحد. صوت نباح كلب من الشارع. صوت قطط تفتش القمامة. صوت تدحرج صندوق تُحركه الرياح وسط الطريق. تنتهي الأغنية. أصوات صراخ وضوضاء بشرية تحت النافذة. المكان طرابلس، شقة رقم 48 وسط المدينة. الوقت بعد منتصف الليل، نهاية أول ليلة خميس من كانون الأول.
أغنية رجل الصندوق الأول:
كان صندوقاً صغيراً. يمكنني القول إنه لم يكن بذلك الصغر، لكن حجم رأسي كبير، نظراً لذلك توجّب عليّ القول إن الصندوق صغير مقارنة برأسي.
في ذلك الرأس جلس صندوق صغير آخر، كان مصنوعاً من خشب الصنوبر وفي منتهى الصغر، ليس بإمكان أحد رؤيته. لا أحد في الحقيقة يعلم من وضع ذلك الصندوق هناك، ما فائدته، لماذا تم وضعه هناك. هل وُلدت به أم أن أحداً وضعه لي. تعددت الفرضيات حول هذه المسألة لكن لا أحد كان ملماً بعلم الصناديق، ولا النجارة، ولا الغيب، ولا أنا أعرف بالتحديد كيف أن الصندوق القابع في رأسي مصنوع من الخشب، خشب الصنوبر بالتحديد. ولم يسألني أي أحد كيف أعرف ذلك أيضاً، أنا أعرف فقط!
محتوى الصندوق كان غامضاً أيضاً. أنا وحدي أعرف ما في داخل الصندوق. إنها أصوات كئيبة! أصوات جميلة! أصوات زرقاء!
عندما حاولت في طفولتي شرح الأمر لأبي وأمي ظنا أنني مجنون، “الصناديق لا يمكنها أن تخزن الأصوات!” قال لي أبي، “لقد سألنا عالم الصناديق الأمريكي ذاك الذي زار المدينة منذ عدة سنوات مع شركة النفط تلك وقال لنا إن الصندوق فارغ، وأنت لا تعرف أفضل من العالم الأمريكي!”
“أنت تتخيل!” قالت لي أمي.
حاولت إخبار أصدقائي في المدرسة، فضحكوا عليّ. هذا أثّر فيّ كثيراً في كبري. حاولت إخبار أصدقائي فضحكوا عليّ. حاولت إخبار الجميع ولكن بلا جدوى، لقد كان صعباً عليهم أن يتقبلوا حقيقة أن في رأسي صندوق، فكيف يمكنهم تصديق أن هذا الصندوق يحمل أصواتاً! وأي أصوات؟
***
أغنية رجل الصندوق الثاني:
خرج في يوم، يوم عادي جداً. كان يوم أحد. في زحام ما، تعرى. هو وسرواله الداخلي الأسود وكلاشنكوف 47 بمخزنين، نزل من السيارة، كان يرتدي صندوق كرتوني بني اللون على رأسه مثل ذلك المجنون الذي رآه منذ أيام. الصندوق به ثلاث فتحات: فتحة كبيرة لفمه واثنتين لعينيه. وبدأ فجأة بالصراخ الغير مفهوم : واع ياع واغ ياغ ساق فاق زاص راض . . .
ثم بدأ بإطلاق النار على الجميع. وعندما انتهى الرصاص وفشلوا في القبض عليه أو قتله، عاد للمنزل لشرب بعض الماء وأعاد الكرة بعد ساعة أو اثنين. لماذا الماء؟ لا يعرف أحد. لكنه بالتأكيد كان عطشانَ بعد كل ذلك القتل. وإن قُتل من أول مرة، على الأقل لم يمت وحيداً وسيظل الجميع يتذكر ذلك الشخص العاري صاحب الصندوق فوق رأسه الذي قتل ستة وعشرين شخصاً وهو يصرخ بكلمات لا يفهمها أحد.
أغنية رجل الصندوق الثالث:
أقف أمام المرآة، إنه اليوم الثاني عشر من اقتل نفسك. أضع معجون الأسنان على الفرشاة وأغسل ما تبقى لي من أسنان. لم أعد أملك إلا ٢٦ سناً. آكل على الجهة اليمنى فقط، الجهة اليسرى لم يتبق فيها أي ضرس صالح للمضغ. أغسل فمي بالماء ثلاث مرات كما فعلت دائماً، أخرج من الحمام وأقف أمام المرآة في الغرفة. هذا الجسد الهزيل، هذا القضيب المتأطئ الرأس، هذه السرة كالقبر، هاتان الذراعان الطويلتان القبيحتان، هذا الرأس الضخم الفارغ، هذه الأعين السوداء الضحلة مثل فتحات المجاري، أنزع الصندوق من فوق رأسي وأنظر مجدداً للمرآة.
“جسد رجل أخفق في كل شيء!” أقول لنفسي. ألتقط الصندوق من على الأرض وأضعه على رأسي. هكذا أفضل، هكذا أفضل، أردد من وراء الصندوق.
اشتريت حبل بـ ٣،٢٥ دينار، كان طويلاً وسميكاً. عدت إلى المنزل قبل لحظات، دخلت غرفة النوم؛ إن أراد أن ينهي أحدهم حياته اللعينة، عليه أن يقوم بذلك في حجرة النوم. هناك شيء رومانسي في الموت في غرفة النوم وحيداً، كأنك تنتظر امرأة لن تأتي وعندها تقتل نفسك. فالحياة لا تعني شيئاً بدونها، هذا ما يعنيه الأمر إن قتلت نفسك في حجرة النوم.
ربطت الحبل في السقف. ذهبت للمطبخ، فتحت الثلاجة، أكلت بعض الجبن. أخذت كرسياً من المطبخ وحملته لحجرة النوم. “هذه هي النهاية أيها الرجل الأزرق!” قال الصندوق. صعدت فوق الكرسي، وضعت الحبل على رقبتي. ربطته ربطة مزدوجة متينة، “عليك أن تقفز الآن!” قلت لنفسي.
اوه لا! لقد نسيت الصندوق في المطبخ، فككت الربطة ونزعت الحبل من رقبتي. نزلت من الكرسي، لا لم أغير رأيي. ذهبت للمطبخ، فتحت الثلاجة مجدداً، أكلت مزيداً من الجبن، هذه المرة عملت لنفسي شطيرة جبن. جلست في المطبخ، أكلت الشطيرة، “لن أغسل الأواني، أنا أنتظر امرأة جميلة لن تأتي!” قلت للصندوق. خرجت من المطبخ، جلست في وسط الشقة. كنت أحاول إقناع نفسي بالعدول عن شنق نفسي وأخذ الفاليوم ومزجه بسم الفئران السائل بدلاً من ذلك. أخرجت سيجارة، لم أجد القداحة. عدت إلى المطبخ، فتحت الثلاجة، أكلت مزيداً من الجبن. ”الجبن اللعين! إنه لذيذ! إنه لا ينتهي!” قلت للصندوق. غسلت الأواني. ”ماذا إن أتت المرأة الجميلة التي لن تأتي، عندما ستدخل المطبخ لتشرب كوب ماء من وهل صدمة مشهد جسدك الحقير وأنت تتدلى من السقف، ستجد الأواني قذرة، ستظن أنك قذر، صديقاتها سيقلن عنك: انسيه، إنه قذر كالخنزير، لا يغسل يديه بعدما يأكل!” أقنعني الصندوق.
بعدها نظفت الحوض والبالوعة. مسحت طاولة المطبخ. أعددت كوب ماء للمرأة التي لن تأتي وضعته فوق الطاولة. كرهت الجبن، “افعلها، افعلها، ماذا تنتظر؟ الآن لن تصفك صديقاتها بالخنزير!” قال لي الصندوق.
وجدت القداحة، لا أعلم من وضعها بجانب الجبن في الثلاجة. أشعلت السيجارة، فتحت باب الشرفة، شاهدت الناس وهم يسيرون في الشارع ونفثت الدخان نحو السماء اللعينة. يبدون سعداء، يبدون كأشياء صغيرة غير مهمة. أصوات ضوضاء السيارات، الصراخ من النوافذ المقابلة، آهات النشوة من غرف النوم، صراخ طفل انتصر على طفل آخر في لعبة تافهة. “الطفل اللعين يظن أن الحياة لعبة، الأطفال سيدخلون الجحيم وأنا أيضاً!” قال لي الصندوق. صوت خطوات بطيئة لرجل عجوز مصاب بداء المفاصل. صوت خفقات قلب جنين في بطن امرأة حامل. “إنه ليس طفله يا رجل، لا أحد يعرف أبناء القحبة مثلي!” قال لي الصندوق.
أكملت السيجارة، رميتها من الشرفة. بصقت بعدها من الشرفة. عندما كنت صغيراً تبولت ذات مرة من الشرفة، انهمر البول على رأس السيدة في الشقة تحتنا بينما كانت تروي أزهارها، “ألا تعرف السيدة أن البول يعد غذاءً جيداً للأزهار وأفضل من أي سماد صناعي؟” قال لي الصندوق عندها. أغلقت باب الشرفة وسرت نحو غرفة النوم.
حسناً، الحبل في مكانه، هذا جيد. الكرسي في مكانه، هذا أيضاً جيد. “أجل، الموسيقى ضرورية!” قال الصندوق. وضعت اسطوانة تيلونيس مونك – سولو مونك في المسجلة، “اسطوانة عظيمة. أنا أستسلم، عزيزتي. القطعة الثانية!” قال الصندوق، “اختيار جيد!”
سرت نحو الكرسي، وقفت عليه. وضعت الحبل على رقبتي، ربطته ربطة مزدوجة، هذه المرة أمتن وأشد. عددت من 1 إلى 10. المرأة التي لن تأتي، يبدو أنها لن تأتي. حسناً، أنا معتاد على خيبات الأمل.
“إنها النهاية أيها الرجل الأزرق، هل لديك شيء تريد قوله في الختام؟” سألني الصندوق.
“أجل، أنا آسف أنني تبولت على السيدة صاحبة الأزهار عندما كنت صغيراً،” أجبته.
“سأفتقدك!” قال لي الصندوق.
“أنا أكثر!” قلت له.
وقفزت.
***
تحقيق مع صانع صناديق حول قضية صاحب الشقة رقم 48، عمارة الطليان وسط مدينة طرابلس:
أمام باب أزرق قديم وقف رجل عجوز طويل أبيض يرتدي بدلة سوداء واسعة وقبعة سوداء كبيرة غطت عينيه. كان ذلك في ليلة سبت صافية. القمر الأبيض كان كبيراً على غير عادته، يتوسط السماء ويُشع بضوئه الأبيض على الشوارع الفارغة.
مركز المدينة، وراء مدرسة الشهيد، في مكتب صغير نهاية الممر على اليمين بابه أزرق، جلس المحقق س. ل. – رجل في نهاية الثلاثينات، مدخن شره ويكره كل أنواع الموسيقى الغربية – وراء مكتب خشبي مطلي بطلاء رخيص أزرق وعليه عدة ملفات، وعلبة سجائر المالبورو البيضاء، وعلم ومحفظة صغيرة بها عدة أقلام معظمها لا تعمل.
دخل الرجل الطويل من الباب ومعه مساعد المحقق س. ل.، الضابط ف.، رجل بدين أبله كان قد تزوج منذ سنة ليكتشف بعدها أن زوجته عاقر لا يمكنها الإنجاب.
كان يوم عطلة، فلا أحد من الضابطين يريد أن يكون هناك. في النهاية كان الجميع يعتقد أن صاحب الشقة رقم 48 مات منتحراً، فقضايا الانتحار تكاثرت بوتيرة لا بأس بها منذ عدة سنوات. “وطننا ليس بخير،” كان ذلك عنوان مقالة في مجلة الفصول الأربعة للمفكر س. ر. حول انتشار ظاهرة الانتحار التي قال عنها في مقالته:
“إحدى الظواهر السلبية الهدامة التي بدأت في الانتشار في مجتمعنا بسبب ضعف الإيمان، ألم يحن الوقت بعد لنجدد إيماننا!”
لكن وحدها زوجة صاحب الشقة رقم 48 وأخت أحد رجالات الدولة المهمين لم تصدق، الجميع صدق ذلك إلا هي، فما كان منهم إلا أن حققوا في قضية صاحب الشقة رقم 48 بعد أن جاءتهم أوامر من السلطات فوق للتدقيق جيداً في ملابسات هذا “الحادث الغريب،” كما قال صوت السلطات على الهاتف.
“تفضل اجلس يا سيد،” قال المحقق للرجل الطويل. جلس الرجل الطويل ووضع حقيبته السوداء الكبيرة بجانب المقعد الخشبي. وجلس أمامه الضابط ف. في الكرسي المجاور للمحقق س.ل.
“شكراً لك على حضورك، نحن فقط نريد أن نسألك بعض الأسئلة بخصوص صاحب الشقة رقم 48، فقد قادتنا تحقيقاتنا إلى أنه كان يزورك في دكانك خلال الشهرين الفائتين بشكل مستمر كما أخبرتنا زوجته، هل يمكنك أن تخبرنا عن أسباب هذه الزيارات المتعددة؟” سأل المحقق س.ل.
“ماذا حدث؟ هل الصندوق بخير؟” سأل صانع الصناديق.
“الصندوق؟ ما هو هذا الصندوق؟ لقد قالت لنا زوجته عن صندوق أو شيء كهذا، لكننا لم نفهم الأمر، هل يمكنك أن تشرح لنا؟” سأل المحقق س.ل.
“لا، لا يمكنني شرح الأمر لكم لأنكم لن تفهموه أبداً، لا أحد يفهم إلا رجال الصناديق، والسيد الذي تسألونني عنه كان أحد رجال الصناديق، لكن أمره انتهي على الأرجح، لو لم ينته لما كنا نجري هذا الحديث.” قال صانع الصناديق وأخرج سيجارة مالبورو بيضاء من جيب سرواله وطلب من الضابط ف. قداحة، “شكراً لك يا سعادة الضابط، كيف حال زوجتك؟ أهي بخير؟” غمز له وأرجع له القداحة.
“انتهى أمره؟ ماذا تقصد بذلك؟” سأل المحقق س.ل.
“أنت تعرف، انتهى أمره، مات، ذهب مع الريح، اختفى، تلاشى. عديد من الكلمات تعني الشيء ذاته،” قال صانع الصناديق.
“كيف عرفت أنه مات؟” سأل المحقق س.ل.
“كان لديّ موعد معه اليوم صباحاً ولكنه لم يأت،” قال صانع الصناديق.
“تفويت موعد يعني موت شخص؟ هذا أمر غريب جداً!” قال المحقق س.ل. وبدأ في الكتابة على ورقة أمامه.
“أجل، وخاصة لرجال الصناديق، لا أحد يفوت موعداً من رجال الصناديق، وإن فوت أحد منهم موعداً، فهذا دائماً يعني شيئاً واحداً فقط، الموت بكل أسمائه،” قال صانع الصناديق.
“من هم هؤلاء ‘رجال الصناديق‘. أنتم منظمة إرهابية أم ماذا بالضبط؟ على الأرجح أنتم مجانين من نوعٍ ما، أو عبدة شياطين،” ضحك المحقق س.ل. ومعه الضابط ف.
“رجال الصناديق هم رجال عاهدوا بعضهم البعض على كتمان السر الأعظم،” قال صاحب الصناديق ورفعَ قبعته على عينيه. كانتا عينين غامضتين، لوهلة هناك ظنَّ الضابط ف. أن لونهما أزرق وظنَّ المحقق س.ل. أن لونهما أخضر. ظلَّ يحدق صانع الصناديق في الرجليّن للحظات دون إبداء أية تعابير على وجهه، ثم ابتسم وأعاد إخفاء عينيه بالقبعة السوداء الكبيرة.
“ما هو هذا السر!” سأل الضابط ف.
لم يجب صانع الصناديق.
“الرجل سألك سؤالاً!” صاح المحقق س.ل.
“لا أستطيع الإجابة، لأنني لا أعرف السر أيضاً، أنا فقط أصنع الصناديق لرجال الصناديق. أحياناً يريدونها كرتونية وأحياناً خشبية، وأحياناً حديدية. وأنا أصنعها لهم بالأحجام والأشكال التي يريدون،” قال صانع الصناديق.
“حسناً، من الأكيد أنكم مجانين لكن لا بأس بذلك. المجانين لا يشكلون خطراً إلا على أنفسهم. على أية حال أنا مقتنع أن صاحب الشقة رقم 48، صديقك، رجل الصندوق هذا كما تسميه، قد انتحر. لا يهمني معرفة السبب، لكن كل الأدلة تشير إلى أنه قفز من النافذة، والتشريح يشير إلى أنه كان ثملاً للغاية، وكان بجانب كل ذلك عارياً. وقد فقد عمله منذ عدة أشهر وزوجته تركته وذهبت للعيش مع عائلتها منذ أشهر، كما علمنا أيضاً أنه كان يدين بالمال للكثير من الناس، وأنه شخص وحيد ومنطو ولديه مشاكل نفسية. أخوه الصغير قال إنه مصاب بانفصام الشخصية، ولم تكن هذه أول مرة يحاول فيها الانتحار، فقد أخبرتنا زوجته أنه حاول شنق نفسه لكن الحبل انقطع، كل هذه الدلائل تشير إلى أن موت صاحب الشقة رقم 48 حالة انتحار كلاسيكية،” قال المحقق س.ل.
“المحقق محق، أحسنت يا سيدي!” قال الضابط ف.
“إذاً ماذا تريدون مني بالضبط؟”سأل صانع الصناديق.
“لقد تحدثنا مع كل من كان يعرفه، وأنت أخر شخص، نحن نريد إقفال القضية ونرغب في سؤالك بعض الأسئلة، لكنني أعتقد أننا قد سألناها، ويبدو أنك مجنون مثله لكنني لا أملك وقتاً لتضييعه عليك، ولو كنت أملك وقتاً لك ولأصدقائك المجانين لما رغبت في تضييعه عليكم وإن شئت أن أضيّعه لوضعتكم كلكم في مستشفى المجانين. لكن المستشفى سيكون مثل الجنة بالنسبة لأمثالكم،” قال المحقق س.ل.
“لا يعبث أحد مع المحقق،” ابتسم الضابط ف.
“حسناً إذاً، هل يمكنني الذهاب الآن؟” سأل صانع الصناديق.
“أجل، يمكنك الذهاب،” أجاب المحقق س.ل. وأشار إلى الضابط ف. بمرافقة صانع الصناديق خارج المركز، “وقبل أن تذهب يا سيد، لا تغادر البلد، لربما احجتجنا إلى سؤالك أسئلة أخرى في الأيام القادمة عن الصناديق، لربما احتجت لصندوق أنا الآخر!” ضحك المحقق س.ل. وضحك بعده الضابط ف.
***
قرية كلايتون، لويزيانا، 241 كيلومتر عن مدينة نيو اورلينز، منزل صغير وامرأة سوداء تدعى نايما:
جلست عجوز سوداء ضخمة ترتدي فستان زفاف قديم ممزق ورث ونظارة سوداء كبيرة على كرسي هزاز صنعه لجدتها رجل عربي بدوي أتى بمحض الصدفة الخادعة إلى أمريكا بداية القرن العشرين كمهاجر.
كان منزلاً أبيض ملكه أول عبد حر في المنطقة في نهاية قرية كلايتون، لويزيانا.
كان الرجل العربي البدوي يظن أنه ذاهب إلى الشام، إلى بيروت قبل أن تكون بيروت اليوم، لكن كونه لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة بجانب كون ابن عمه – الذي كان يعمل مع تاجر قماش تركي في طرابلس الغرب – يكرهه كرهاً عميقاً لأن لديه موهبة فظيعة في النجارة حسده عليها الجميع، جعله ذلك ملعوناً بحظ سيء جداً.
خدعه ابن عمه واشترى له رحلة إلى ميناء مرسيليا ومنها إلى ستاتن آيلاند، نيويورك، أمريكا من تاجر إيطالي في طرابلس. وأخبره أن رحلته بعد يومين.
لم ير الرجل العربي البدوي في حياته البحر، ولا الشام، وكل ما سمعه عن بيروت في ذلك الوقت كان من نجار عثماني ودود تحدث معه ذات يوم في زيارة له لطرابلس وقال له إنها أفضل ولايات الإمبراطورية العثمانية في النجارة، إن أراد في يوم أن يحترف حقاً النجارة. في تلك الليلة أراد الرجل العربي البدوي الذهاب إلى بيروت أكثر من أي شيء، حتى أنه لم يكن يعرف كيف يلفظ اسمها. كان يقول لوالدته: بريوت، وأحياناً آخرى كان يقول: بوريت. لم يستطع لفظ اسم المدينة بطريقة صحيحة إلا بعد 20 سنة، كان ذلك في نيو اورلينز عندما صنع أول صندوق له تحت إشراف نجار عجوز أسود حر، اسمه جو بلوسوم، جد نايما، في كلايتون، لويزيانا.
“تجدهم في الداخل،” قالت نايما للرجل العجوز الطويل الأبيض صاحب البدلة السوداء الواسعة والقبعة السوداء الكبيرة التي كانت تغطي عينيه الغريبتين.
“شكراً جدتي،” قال الرجل.
“أين كنت؟” سألت نايما.
“كيف حال دروس الكمان مع فتاتنا؟” سأل الرجل وأشار بإصبعه الأبيض الطويل نحو فتاة صغيرة ممسكة بكمان على الشرفة.
“أنت تعرف، أنت تعرف، لكنها ستصبح أفضل مع الوقت،” قالت نايما، “والآن قل لي أين كنت يا ولد؟”
“أنتِ تعرفين، أنتِ تعرفي.، سأصبح أفضل مع الوقت، أعدك،” قال الرجل العجوز.
“حسناً، أنا أثق بك. لكنك الأسوأ بينهم، أو ربما الأفضل، لست متأكدة. الآن اغرب عن وجهي وادخل، الرجال في انتظارك،” قالت نايما وأنزلت نظاراتها السوداء بسبابة ذراعها اليسرى ونظرت إليه ثم أعادت النظارات السوداء على عينيها واستمرت في النظر إلى الفضاء أمامها.
“حالتك سيئة،” قالت نايما دون أن تنظر إليه.
“أجل، أعرف. فقدت السيطرة لمدة، لكن ذلك لن يحدث مجدداً،” قال الرجل الأبيض وسار عبر الباب إلى داخل المنزل.
كانوا عشرة رجال، وهو الرجل الحادي عشر. اسمهم صانعو الصناديق، ورثة جو بلوسوم. كانوا يصنعون الصناديق لرجال الصناديق، الرجال الذين كتموا السر الأعظم.
***