صلاح باديس: بنزين

Photo by Salah Badis

Photo by Salah Badis

من قلب العاصمة تمتد طرقات مهترئة، تُشبه شرايين إنسان نهشها داءُ السُكّري. الشاحنات الكبيرة الخارجة من الميناء والعائدة إليه، القادمة من بعيد، الواقفة في طوابير لا تنتهي قبل نقاط التفتيش، تطحن الأسفلت بعجلاتها، تُخلّف عليّه ندوباً وحُفراً. الشاحنات لا تتوقّف عن السير، وفي الليل تضاعف من سرعتها، تلهو في الطرقات كديناصورات صغيرة. تغرز فيها مخالبها السوداء. تأكل الطريق كما أكل الميناء وجه العاصمة. عجلات السيارات اهترأت بدورها، والإطارات المعدنية أيضاً، كلما أعبر فوق الندوب أسمع صرير نوابض السيارة، حديد يحكّ الحديد. صديقي يقول لي بأن الحالة ستسوء أكثر إن لم أصلحها.
وأنا لا مالَ عندي لأصلِح كلّ هذا، مال السيارة يذهب للبنزين.
لا أفرِغُ كميّات كبيرة، فقط بضع لترات. غالباً ما أنسى فيذكّرني المؤشر الأحمر عند عودتي كلّ ليلة فأسوقُ حتى أول محطة، أسْنِدُ الأنبوب على الفوهة وأنتظر. يتباطئ العدّاد عند آخر الدنانير فأكبِس على  الأنبوب أكثر. عددٌ مدوّر. أبحث عن ورقة نقدية مهترئة وأدفعها للرجل، أجلس خلف المِقود وأنطلق.
أقرأ رقم الكيلومترات التي يمكنني استهلاكها، رقمٌ ثلاثي يتوسّطُ رسمين لسيارة وكُشك بنزين، أقرأ الرقم الذي يختلف في كلّ مرّة، وأسأل نفسي ما هي أبعد مدينة يمكنني أن أصلها بما معي من بنزين، وعندما يكون معي مالٌ إضافي وأملأ الخزّان لآخره، عندها يصير رقم الكيلومترات رباعياً فأقول لنفسي لماذا لا أقطعُالطريق الوطني رقم 1″، أطول طريقٍ في البلاد. يبدأ من المدينة لينتهي في النيجر خلف الصحراء، تماماً كعمود فقري.
هناك في الصحراء سأبيع السيّارة وأذهب بمالها إلى تمنراست، أعيش هناك بين وسط المدينة وقمّة الآهقار. لكن عدم القيادة في اللّيل، الأعياد، ساعات الفجر الأولى وأثناء صلوات الجماعة الكُبرى، وكلّما فرغت الطرقات من البشرأمرٌ مُحزن لا أطيقه. أؤجل حكاية الصحراء، وأنا أقول لنفسي بأنّ سِعر لتر من البنزين أرخص بمرتين من سعر لتر ماء في هذه البلاد، وهذا أمرٌ جيد وأقل تكلفة وجهداً من لتر واحدٍ من هواء الدراجة.
لكن الأخبار في الراديو تقول إن كلّ هذا سيتغيّر، وإن الدّعم سيرُفع عن البنزين، وأنا سأُحرم من اللّف في الطرقات كلّ ليلة قبل الدخول إلى البيت. كلّما أمر بالميناء ألاحظ عدد الشاحنات الذي يقلّ في كلّ مرّة، الحواجز الأمنية تُفتح في المساء ويقف رجال الشرطة على أطرافها يستريحون من تعب النهار. الحواجز على الطرقات لم تعُد مُخيفة كما كانت في التسعينيات، هي فقط للتخفيف من ضغط آلاف السيارات الداخلة كل يوم للعاصمة. لكننا ألفناها منذ سنوات الحرب، لا نطمئن إلاّ بوجودها، توقِفنا ونحن عائدون من البحر لتسألنا لماذا نلبسُ شورت وكلاكيت في أقدامنا، تُهددنا بسحب أوراق السيارة، فنُثير ضجّة في الحاجز وكلنا ملحٌ ورملتوقِفنا الحواجز لتسألنا عن أعمار رفيقاتنا، فالحواجز تنزعجُ من أيادينا المرتاحة على أفخاذهنّ. تسألنا الحواجز عن أعمارنا وأعمار رفيقاتنا، تتأكدّ من أن الجميع قد بلغ سنّ الرُشد ثم تُطلقنا بخيبةتوقفنا الحواجز وهي لا ترتدي أقنعة سوداء ولا تحمل كلاشينكوف، توقفنا وقد فقدت هيبتها وصارت شيئاً يمتص الصدمات ويُبطئ وصولها للمدينة. توقفنا فقط لأن المدينة لم تعُد تتسّع لكلّ السائقين، ولأن الدولة تُفكّرجدياًفي تحويل الطُرقات إلى مساحات لركن المركبات.