ما تزيدوش تْحَوْسُوا على قلبي، كْلاوَه الهْوَايشْ: صلاح باديس يودّع ٢٠١٤
صحيفة ديسمبر
قبل أيام ترجمت بيتًا من قصيدة لبودلير، ترجمته الى الدارجة الجزائرية، البيت يقول: “لا تبحثوا عن قلبي بعد اليوم فقد أكلته الوحوش”. فصار: “ما تزيدوش تْحَوْسُوا على قلبي، كْلاوَه الهْوَايشْ”. بيت الشاعر “الشيطاني” والمحرّض على الرذيلة واستثارة الحواس، حسب ما ورد في حكم ضدّه لما نشر “أزهار الشّر” عام 1857، هذا البيت صار بالدارجة أقرب الى كلمات الراي، في فجاجتها وصراحتها وتأكيدها على الانا المجروحة ضدّ الكل.
في التاسع من ديسمبر 2014، يكون قد مرّ عام. انتظرت حتى ينتهي العام، حتى أدخل من جديد في حالة من الملل الخانق، لأفكّر – بجدية – أن كل ما فات كان محاكاة للمحاكاة…
الشتاء تأخر كعادته منذ أعوام، لذلك يمكنني القول أننا نحن من ولدنا بين بداية التسعينات والى ساعة قراءة هذه الصحيفة، نحن أبناء الصيف، أبناء الحرّ، أبناء الشمس الباردة… مظاهر الشتاء من ريح ومطر وغيم، حملت للحزانى والوحيدين مللا وألمًا. الاجساد الحزينة داخل طبقات من الالبسة تيبست، كمدفأة سوداء قديمة متآكلة بلا حطب ولا نار، ولا بيت يحضنها، عارية للشتاء والليل. فخّار فارغ بارد يطوف.
أصابعي على المفاتيح تتحرّق لكتابة عبارة عن هذا العام “أسوأ عام على الاطلاق”، لحرق المسافة الطويلة التي اجتزتها من نهاية 2013 حتى اليوم… عبارة توجز كل ما حدث، محمّلة بشحنة عاطفية كأنفاس ثور سقط تحت أرجل الماتادور… لكن لماذا نتسرّع نحو النهاية؟
من سمّاعات السيارة كانت تخرج موسيقى فرقة إمزاد الطوارقية، sahara blues، اشتريت الالبوم المسمى الدُّنيا، رأيت أنّه مناسب للطقس البارد والمطر… وبينما أنا أسوق السيّارة، أسوقها كما يساق الجمل أو الحصان، لا أقودها… وبينما أنا متوقّف وسط سلسلة جامدة من السيارات بدأ المطر… كان يتساقط حرفيا، يتساقط حبّات صغيرة، بكثافة لكن ليس بقوّة، كانت الحبّة تضرب الزجاج وتتناثر كالزئبق، لم يكن المطر يسوّط الزجاج… أبداً. ما خلق رملا مائيا على سطح زجاج السيارة الأمامي. أسكتت الموسيقى الصحراوية في المناخ البارد، لأسمع المطر المتساقط، بدون ريح يجعله يسوّط الاشياء والنّاس، وأنا أتذكّر مثلا شعبيا، يقصد به “ما دخل الريح اذا سقط المطر؟”، “إذا طاحت الشتا، الريح واش قوّدو؟”
المعنى في عبارة “أسوأ عام” ليس بمقارنته مع ما فات من أعوام، لكن كونه بدأ سيئًا من دون آمال عريضة (أحب هذه الصفة رغم أني أمقُت العبارات المعلّبة التي تغرف من بحر، ‘عريضة’! تبدو كوصف لخصر فتاة، ربما يكون اسمها آمال) من دون رغبات وأهداف، في الـ25 من ديسمبر 2013، صوّرت نفسي أمام المرآة، كنت أقيم مع قريبي في شقتهم الخالية من أهله، وأعمل في مركز تجاري، يبعد 10 دقائق، في حضانة أطفال، مفتوحة من الصباح لليل، يلعب الاطفال بينما يقوم الكبار بالمشتريات. مرضت من الهواء الساخن المعاد تدويره، لكني لم أتوقف عن العمل، لم يكن لدي ما افعله، اسمع أغنية لفرقة باسنجر Let her go، وأساير الاطفال وأهاليهم والخلق الذي تدفق على المركز التجاري… كانت أيامًا ثقيلة لا تمّر والعالم الصغير الذي رسمت حدوده كحيوان برّي، بالبول، يريد مساحة لنفسه وسط الخلاء، هذا العالم كان يتلاشى… بدأت مرحلة جديدة بشعار جديد “لا شيء يشدّك”، كسفينة بلا مرساة، كشيء في مهبّ الريح، أي شيء، نسي أصحابه أن يربطوه… كنت أبتعد مع كل لحظة عمّا حسبته مركزا منذ عامين، وكان المركز يبتعد عنّي… عندما تفكّ حبالنا، ونخرج من دائرة الأمان نبحث عن العزاء في شيء نحبه لا زال باقياً، لم أجد شيئاً! الصورة كانت باهتة تشبه فعل survivre أي “محاولة البقاء حيًا” ، نفس العبارة والتي ستتحد مع الأولى (لا شيء يشدك) ستتمدد الى الأشهر التالية من دون أن أدري، متأثرة بعوامل عديدة تبدأ من الصباحات الخانقة والليالي الطويلة -الخانقة أيضا- إلى رأس الدولة وحال البلاد، والانتخابات وكل ما رافقها من هرج وصراخ خمد بعدما أعلنت النتائج، كل هذه الـ’لماذا؟’ الكبيرة والمبهمة كالكون ستظللني لفترة طويلة…
منذ أشهر وأنا أحاول أن أصوغ عبارة عن معنى وجود البحر في المدينة… أي بحر، وأي مدينة… وفي حالتي: مدينة الجزائر والبحر الأبيض المتوسط! المدينة التي فيها بحر غرفة من ثلاثة جدران، أو رواق طويل في آخره نافذة صغيرة عالية نصف مفتوحة تساعد على تهوية المكان.
ديسمبر ليس شهرا، ديسمبر حالة، لا تنتهي بانتهاء الشهر، العشر الأواخر منه، من العام، كأنها آخر نداء لشيء سيُقلع ولن يعود، شيء غريب يتكدّس في مدخل العام الجديد.