يوسف رخا: خمس ملاحظات على عودة باسم يوسف

Bassem Youssef. Source: enigma-mag.com

(١)
أهم ما يقوم به باسم يوسف هو أنه يبروز قابلية المصريين على السخرية من أنفسهم بلا وعي – وهي صفة لا أظن مجتمعاً آخر يتمتع بها بالشكل نفسه: ذلك التطرف الـBaroque في التعبير عن الآراء السياسية بالذات – الأمر الذي اتضح بشكل غير مسبوق في الإعلام منذ ٢٥ يناير. فكثيراً ما يبدو الأمر، سواء بمساعدة المونتاج الذي يقوم به معدو “البرنامج” أو بدونه، كما لو أن المنحاز لطرف ما إنما يعمل في الحقيقة ضد ذلك الطرف بمنطق المفارقة الساخرة… وهل هناك “إساءة” للسيسي أو تقليل من قدره ومن قدر القوات المسلحة بل والأمة المصرية متمثلة في شخصه أكثر من الاحتفاء الإعلامي بتحول “القائد التاريخي” إلى شيكولاتة تباع بالكيلو؟ وهل هناك “إيحاء جنسي” وذكورية ساقطة أوضح من وصفه المتكرر بكلمة “دكر” من جانب رجال ونساء على حد سواء؟ باسم يوسف أكثر الوقت لا يسخر إلا من مسخرة حاصلة، ولا يتيح له أن يسخر بهذه الطريقة من شخص أو جهة كالتيار الإسلامي مثلاً إلا أنّ سخرية تلك الجهة اللاواعية من نفسها لا تقدّم بوصفها كذلك ولكن، من شدة جهل وتفاهة ولا أخلاقية مقدميها، بوصفها تمجيداً و“تلزيقاً” أو مبالغة مرضية في الانحياز للذات.
(٢)
إنجاز “البرنامج” ليس في تقنيته ولا محتواه، واللذين يَسْهُل ردهما إلى مصادرهما غير الملهمة إجمالاً في التلفزيون الأمريكي وفي تنكيت “الثورة” على الإنترنت. (شخصياً لا أجد باسم يوسف في حد ذاته مضحكاً.) إنجاز البرنامج، وما أظنه يبقيه ظاهرة إيجابية بغض النظر عن محتواه وأحيانًا حتى سخافته، هو أنه يصل بنقد المجتمع إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من داخل قواعد ذلك المجتمع بفهم ولغة “النخبة الشابة” أو الطبقة المتعلمة المعولمة التي نشأت للمفارقة في أحضان نيوليبرالية مبارك فبادرت بـ”عمل ثورة” عليه من خلال “فيسبوك”. فرغم كل ما يقال في دحض هذا النوع من الكوميديا “السياسية” بوصفها “إسفافاً” لفظياً أو درامياً و“قلة أدب” نشفق من أن “تدخل بيوتنا” (وهو لا يقال بدافع النفاق والتباله فقط وإنما أيضاً دفاعاً عن “آداب عامة” أقدم وأكثر انعزالاً عن العالم المعاصر)، الحقيقة أن باسم يوسف لا يخرج لحظة على “الثوابت” (الوطنية، الدينية، “الأخلاقية”، الثورية-الديمقراطية…) ولا “يتجاوز” مسلمات المجتمع حتى حين يقتضي الأمر اعترافاً بأن المشكلة في “النظرية” وليست فقط في “التطبيق”. “إسفاف” باسم يوسف مقبول ويمارَس في جميع قطاعات المجتمع منذ زمن طويل وإن ظلت جوانب منه عرضة للرقابة في الإعلام.
(٣)
المبادئ التي يروّج لها باسم يوسف – مبادئ “ثورة يناير” والبرادعي والطبقة الفاعلة الجديدة – يمكن أن توصف صدقاً بذلك التعبير الفارغ: “قيم لا يختلف عليها أحد” (أو كما قال البرادعي في تبرير استقالته لمحمود بدر، على حد الأخير: “الحياة الإنسانية يا محمود”). فحتى في انعزالها عن قيم قطاعات عريضة من المجتمع، تمثل هذه المبادئ توجهاً وإن ثبت أنه أجوف وبلا جدوى “تاريخية” يظل المادة التي تقتات عليها “أخلاق الثورة” حتى اليوم: ليس حرية العقيدة، مثلاً، وإنما الوحدة الوطنية بين قطبي الشعب المتدينين “بطبيعتهما”؛ ليس نقد النيوليبرالية العالمية التي تنتج للبلاد العربية “ديمقراطيات” الأصولية الدينية والحروب الطائفية وإنما رفض أكاذيب وانتهاكات السلطة بغض النظر عن توجهها؛ ليس القطع مع منظومة يوليو (والذي لم يكن “نظام مبارك” سوى أحد امتدادتها المنطقية المحتملة) وإنما الاعتراض على الفساد و“الاستبداد” داخل ذلك الأخير… وليس حتى الدعوة للتخلص من مرسي (بالذات وأننا نأكل عيشًا على قفاه) وإنما “الاختلاف البناء” مع الإسلاميين! بهذا المنطق يمكن النظر إلى باسم يوسف في سياقه الوعظي كداعية إسلامي وزعيم وطني cool، ويمكن من ثم إدراك أن “البرنامج” يعمل لصالح الترجمة السياسية المطروحة (والتي اصطدم الجميع بمدى كارثيتها) لشعارات ٢٥ يناير.
(٤)
فضلاً عن كونها احتجاجات تستتبع عنفاً فيما تفتقر إلى الرؤية والتمثيل السياسي، فالثورة – مثلها في ذلك مثل التدين – ليست سوى نوع من الوعظ المربح والمنفصل عن واقع الغالبية وإن اتصل بالمثاليات المجردة لتلك الغالبية وجانب من حياتها العاطفية المنعزلة عن حياتها اليومية والعملية وعن اختياراتها الأخلاقية والاجتماعية، أو هذا الوعظ هو أحد التجليات القليلة الممكنة لما سُمي اعتباطاً بالثورة. وحين يتخذ الوعظ هيئة كوميدية cool مراهناً في قبول الناس به على “الحق” بمعناه العام، أو الحقيقة، فالمفترض أنه يهدف إلى توعية هؤلاء الناس واستنفارهم للتضحية والاجتهاد بل و“الجهاد” من أجل تغيير عام أو جماعي يُفترض بطبيعة الحال أنه تغيير إلى الأفضل. لكن ما لا يجيب عنه الواعظ – لا الآن ولا أيام مرسي – هو كيف يمكن أن يساهم في التغيير خطاب “محايد” وحسن النية إلى درجة تهميش الأمن والكفاءة وتصعيد الطائفية بحجة الديمقراطية، ثم إبقاء الناس في بيوتهم للضحك أمام الشاشات دون طرح ولو سؤال عارض عن الدور الذي يلعبه هؤلاء الناس أنفسهم كأفراد في بقاء الوضع على ما هو عليه؟ كيف لخطاب بهذه السطحية يتناول أموراً بهذا التعقيد أن يختلف عملياً عن التغييب “الفلولي” الموروث في الإعلام المصري؟
(٥)
الاعتراض السياسي على عودة باسم يوسف بحلقته الأولى ربما يكون مفهوماً وإن كان ما تضمنته الحلقة في أي تحليل أتفه كثيراً من حجم رد الفعل الذي أثارته. لكن ذلك الاعتراض يجب أن يكون، وبالقدر نفسه، اعتراضًا على فكرة “استمرار” ٢٥ يناير؛ كما يجب الكف بغض النظر عن باسم يوسف عن ترديد الهراء البرادعوي حول أن ٣٠ يونيو هو “استكمال” لـ“الثورة” بدلاً من الاعتراف ببساطة بأنه كان الإعلان النهائي لفشلها. لكن يبدو لي أنه بالقياس على بذاءة المحتوى المسيطر منذ ٣٠ يونيو على قناتي “أون تي في” و“سي بي سي” – وقبلهما طبعاً، وقبل كل شيء، قناة “التحرير” – ليس الاعتراض “الأخلاقي” على باسم يوسف إلا بجاحة تداني الإجرام في صفاقتها. فبأي مقياس، يبقى خروج أي ممن استهدفتهم الحلقة ليتهم باسم يوسف بالإسفاف وإهانة “الرموز” فعلاً أشبه بخروج المومس لتتهم زوجة زبونها بالدعارة… ورغم الالتباس البادي بين السياسي و“الأخلاقي”، يمكن تحديد الدوافع. لا ضرورة على الإطلاق لاحترام باسم يوسف أو ثورته، ثورة الندامة، لكن لا يمكن أن يكون القبول بـ“الانقلاب” ارتداداً من سقوط مبارك إلى صعود عبد الناصر جديد… بعد ستين عاماً.