محمد ربيع: أحمال

odalisque-by-hassan-hajjaj

Hassan Hajjaj, “Odalisque”. Source: offmag.blogspot.co.ke

في الأول من فبراير عام ١٩٥٧، وفي مدخل قصر الأمير عبد المنعم، توقف ضابط شاب مواجهًا الأمير بصرامة معتادة. أخبره أن عليه الرحيل، عليه ترك القصر فورًا. بدون أن ينطق حرفًا، عاد الأمير إلى الداخل، ثم خرج وفي يده حقيبة، ابتسم للضابط، وتحرك نحو السور الجنوبي للقصر.
تعجب الضابط في البداية مما حدث، فللقصر مدخل واحد، يقع في السور الشمالي. وازداد عجبه حينما فتح الأمير باب غرفة ملاصقة للسور الخلفي ودخلها. في الداخل، احتد الضابط عليه، أدرك أنه خُدع، وأنه لم يتم مهمته بنجاح، هدده بطرده بالقوة، لكن الأمير ادعى أن هذه الغرفة ليست جزءًا من القصر، وهو لا يملكها، مع ذلك يستطيع البقاء والعيش فيها. قال له إن والده تخلى عنها منذ مدة طويلة، أخبره أن الشيخ أبو النور مدفون بها. أشار الأمير إلى هيكل في منتصف الحجرة مغطى بسجاد رقيق: ألا ترى القبر؟ ثم أدار سبابته في هواء الغرفة: هل ستأممون ضريحًا؟
في ذلك اليوم، بحث الضابط عن خريطة القصر في الملف المُعطى له، تأملها مرارًا أثناء كتابة تقريره، ذكر الضابط في تقريره أن الأمير قد غادر القصر بالفعل، وأن المهمة قد تمت على ما يرام، ولم يذكر حكاية الضريح أبدًا، لم يكن هذا تقصيرًا منه، ولم يكن تواطؤًا. أرفق الضابط خريطة القصر مع التقرير، وهكذا اطمئن لدقة تقريره أخيرًا، وأيقن أنه أتم مهمته على أكمل وجه.
تُظهر الخريطة مبنى القصر وحدوده. وفي السور الجنوبي يظهر جزء صغير مقتطع من السور، لا ينتمي للقصر، بل يبدو وكأنه جزء من الشارع، مكتوب عليه بخط دقيق: ضريح الشيخ أبو النور.
***
لا زلت أذكر أول مرة تجرأتُ وخالفتُ فيها أوامر أمّي. قالت: لا تشرب عصير القصب من الشارع، ملوث، ستمرض حتمًا إذا شربتَه.
أطعتُ هذا الأمر لمدة طويلة، وكنت مقتنعًا بأني سأمرض إذا ما شربته، ولا أعرف ما الذي دفعني لشرب الكوب الأول. خصوصًا أنّ برودة ذلك اليوم لم تكن دافعًا قويًا. كنت قد قطفت ياسمينة من الفرع المتدلي على الرصيف، وشاهدت امرأة تقف أمام نافذة الضريح الصغيرة، متعلقةً بالقضبان الرأسية للنافذة على الجانب الآخر من الشارع. وكعادة مريدي الشيخ أبو النور، كانت تهمس له بحاجتها، همس المحبين. أهذا ولهٌ أم طلب؟ ازداد اقتراب المرأة من النافذة حتى التصقت بها تمامًا، كنت أعلم أنها تبكى، لكني لم أرها باكيةً. ولما أتمت طلبها واعترفت بولهها، استدارت إلىّ وهي لا تعلم أني أراقبها والتقت أعيننا، ولا ريب أن النظرة دامت للحظة لكنها حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد؛ وقفت المرأة بعينين رطبتين أمام النافذة التي تخفي ما بالداخل، وأمامها الجذع الأفقيّ لشجرة الضريح.
امتد الجذع خارج التراب رأسيًا، فقط لمسافة قصيرة، ثم انحرف بحدة لينمو في اتجاه أفقي، ثم عاد لينمو مائلًا، لينطلق ويتفرع فوق الضريح، وفوق الشارع كله.
تحركت خجلًا من تلاقي الأعين، وبعد عدة أمتار وقفت أمام محل العصير. طلبت كوبًا وشربته بتمهل على غير عادة الناس، ورائحة الياسمين في أنفي، والمرأة الولهانة في عيني.
سأمر بعد ذلك اليوم مرات عديدة ماشيًا في شارع الشيخ أبو النور، ولسنوات قادمة سأرى ضريحه وشجرته كثيرًا، وسأشرب القصب ورائحة الياسمين.
***
مشت صبرية وكأنها تطفو فوق الأرض، تحمل صينية الطعام للأمير. في مستقره الجديد داخل الضريح، جلس الأمير ليقرأ ويشغل الموسيقا. في الصباح يفتح الباب المطل على الحديقة، ويجلس بالداخل. يتابع ما يدور بين الأشجار، يتابع العاملين بالقصر، يراهم ولا يرونه. كان لا يزال يأمل في العودة إلى القصر مرة أخرى.
في اليوم الأول، لما دخلت صبرية الغرفة بعد طفوها، فكر الأمير: ستجلس بين ذراعيّ. وفكرت هي: سأقبّله. بدا الأمر حتميًا، وأصبح كل كلام قد يبرر ما سيحدث سخيفًا. ما أسقط الأمير على الأرض صريعًا كانت الأنامل الدقيقة، تلك التي أحاطت بالكوب وسلمته له. فكر الأمير: ربما تنكسر وتتشظى إذا ما ضغطت عليها. لابد من الإحاطة بتلك الأنامل. ثم تم الإجهاز على الرجل تمامًا، حينما مشت صبرية عائدة إلى القصر، حرة الذراعين. مشت وهي تعلم أن كل شيء زائل وأن عِرقًا جديدًا سيتضافر مع عِرقيها السودانيّ والصوماليّ.
تغلّب الطيش الحالي على الإحساس بالذنب المستقبليّ، وبدا لهما أن الحياة لن تدوم إلا ليوم.
كانت رحلة يومية؛ المشي من أول شارع أبو النور حتى آخره، ثم في شوارع أخرى حتى أصل إلي بيتي. ولا أعلم كيف حدث هذا؛ لكن تفاصيل المشي في الشوارع الأخرى غائبة عني، بينما تفاصيل شارع أبو النور حاضرة في ذاكرتي بقوة. حتى اليوم، وأنا أكتب هذا الكلام، أتذكر كل شيء.
لن أنسى أبدًا أول مشاهدة، أم أنها أول رؤيا؟ على باب المدرسة وفي وسط زحام الخروج، سمعتُ أن المترو قد دهس للتو زميلًا لنا. أسرعنا جميعًا لنرى الجثة، تحلقنا حولها، ورأيناه. لكني لم أفهم قط ما حدث، تفرقت أعضاء الفتى في دائرة صغيرة جدًا، وتخيلت أن أحدهم جمعها وكون منها كومة واحدة، ثم وجدت واحدًا من الواقفين يقوم بحجب الجثة بأوراق الصحف. وقفت قليلًا أحدق في تل اللحم المغطى ثم مشيت متجهًا إلى البيت.
هناك، في منتصف شارع أبو النور، وعلى الجزء الأفقي من فرع الشجرة الماثلة أمام الضريح، شاهدت لفافة قماشية بيضاء تحوى ما ظننته رضيعًا. عندما اقتربت، شاهدت وجه الطفل ناصع البياض، تمامًا كالقماش الذي يحيطه، كان نائمًا في وضع جنينيّ وكأنه لم يولد بعد. كان المشهد ككل أغرب من مشهد الأوصال المكوّمة الذي شاهدته للتو. وفكرت، كيف يترك أحدهم طفله هكذا بلا حماية. ورغم الغرابة البادية، إلا أن حميمية ارتبطت بالمشهد أيضًا. وقتها لم أكن أعرف معنى الكلمة، لكن الشعور كان جليًا.
للحظة، ظننت أن جذع الشجرة لم يكن مهدًا للطفل كما هو ظاهر، بل هو قبر له.
***
صحا الأمير وآلام بسيطة تشغل بطنه. ومع آخر اليوم ازداد الألم كثيرًا، وفي اليوم التالي تذكر أنه لم يتبول ليومين أو ثلاثة.
عاد الأمير من المستشفى محطمًا، كانوا قد أزالوا جزءًا من جسده في عملية مؤلمة. ظل يهذي أثناء إفاقته ويفكر في ما أودعه في جسد صبرية.
مرت أيام وهو جالس في غرفة الضريح، لابسًا جلبابًا مخططًا لا يبدله. يقوم ليتمشى قليلًا في الحديقة ثم يعود وقد أٌنهك جسده تمامًا. سرح بخياله متأملًا ما حوله معظم الوقت. قل طعامه وشرابه ثم عافهما تمامًا.
انهارت دفاعات جسده مرة واحدة، فعانى من حمى استمرت ليومين. قام بعدها هزيلًا لا يكاد يقف. ثم صحا من في القصر ذات يوم ليكتشفوا غيابه الكامل.
كانت ملابسه واسطواناته وكتبه في مكانها فظن البعض أنه ذهب ليتمشى حول القصر أو في الشارع الخلفي. انتظروا حتى حل الليل. لكنه لم يعد. كان برد فبراير في قمته.
في صبيحة اليوم التالي لاحظ أحد الحراس أن هناك تجمهرًا صغيرًا خلف القصر. أمام نافذة الضريح، كان الأمير يتدلى مشنوقًا من أحد فروع الشجرة. أخفت الأغصان جثته ليوم كامل واكتشفه أحد المارة بالمصادفة. انتفخ جلبابه المخطط بالهواء ثم التصق بجسده العاري بفعل الريح، فظهر جسده للجميع شديد النحول متخشبًا.
مر وقت وقت طويل قبل أن ينزلوا الجسد المتدلي من الفرع. أسندوه لوهلة على جذع الشجرة الأفقيّ ثم أدخلوه إلى القصر لتهيئته للدفن.
***
هذه أيامٌ عظيمة، أيامُ المدرسة، حمل همي آخرون، وظلّت كتفاي حرتين بلا أحمال. كنت كيوسف، بطل فيلم “الكيت كات”، أطير ولا ألمس الأرض بقدمي.
قالي لي أبي ذات مرة: استمتع قبل أن تَرفعَ الأحمال. كنت وقتها قد أدركت ما يرهق كتفيه. لكن قوله هذا أشعرني بالذنب؛ كيف أستمتع وهو مرهق هكذا؟ لم أكن لأتحمل ذرة مما يتحمل وكان هو حريصًا على إبعادنا عن كل هم. أعلم أنه تلقى همومًا كثيرةً فجأة. أثناء شبابه وخلال شهور قليلة وجد نفسه راعيًا لبيت اعتاد أن يكون أحد أفراده. كنت أتمنى لو أنه أشركني في همه، أولًا كي أعتاد القادم، وثانيًا كي يتخفف قليلًا مما يرهقه دومًا، لكنه لم يفعل. كان أبي يعلم أني لم أكن جديرًا بأي أحمال.
لكن لا مفر. لما بلغت الثلاثين كانت الأحمال قد تراكمت بالفعل، ولم أعد ألمس الأرض بقدمي أثناء المشي، بل صرت لا أرفعها من فرط الثقل. حفرت قدماي بصمات في كل طريق مشيته، حتى شارع أبو النور لم يخل منها. كنت أتمنى أن أنتهي وقد مشيت بلا بصمات، وبلا أحمال.
لكن ّما كان كان.
بسرعة بالغة انتشر الخبر: تشارك الأمير عبد المنعم وصبرية في الفراش، وانتحر الرجل لشدة إحساسه بالذنب، وهي الآن تحمل جنينه ولا تعرف كيف تتصرف.
انتشار سريع حاسم. وبعد يومين من الكلام، بدا الخبر وكأنه في إطار عمل انتقامي موجه إليها، جارة حسودة، زميلة قبيحة، أو ربما رجل آخر اشتهاها سابقًا وصدته. أحدهم نشر الخبر الغريب، حكاه للجميع، حكاه لمن في القصر، لبوابي المباني المحيطة بالقصر، للجيران، للمارة، للباعة الجائلين، فعل يوحي بالشماتة ولا يتطلع للإخبار. ولما سُئلت صبرية عما حدث صمتت.
هذا صمت مزلزل، هذا صمت الموافقة. قالوا: سرقتها السكين. لم تعتد الكذب. تزني ولا تكذب.
أحاط الرعب بالقصر وبالشارع أول الأمر، ثم لما ردت بالصمت استراح الجميع، على الأقل، لم يظلم أحد صبرية بالكلام، والكلام أظلم من الفعل. هي فعلت ذلك وصمتت موافقة، وبقى الجميع في انتظار ما سيحدث، تسعة أشهر ونرى النتيجة، لا أكثر من تسعة.
قالوا: ستهرب حتمًا. ستبقى. ثم تساخف الشباب وأخذوا يسخرون مما حدث وسيحدث. قالوا: الأمير أحب الخادمة. ستلد أميرًا صغيرًا. بل ستلد ملكًا يحكم البلاد مرة أخرى. ستلد أميرًا، أو ستلد خادمةً. قالوا: بطنها ينتفخ. تمشي بتثاقل.
وبعد هدوء كل تلك العواصف، ومع انشغال الناس بأمور أخرى، قال القليل: لنتابع بطنها، علّنا نظلمها. لكنهم تذكروا صمتها فصمتوا.
***
رقد أبي مريضًا في مستشفى قريب، كان السكون قد أتم زحفه على جسده وأيقن الجميع أن الوضع سينتهي خلال وقت قصير ولا سبيل للعودة إلى الوراء. هربت من السكون، ومشيت خارج المستشفى حتى وصلت لأول شارع أبو النور. كان أذان الفجر يسرى في الهواء، والنسمات الصيفية ترافقه، عندما رأيت الطفل مرة أخرى. كانت هذه ثاني رؤيا للرضيع وقد مر على الأولى سنوات عديدة. بخلاف المرة الأولى، كان الرضيع جالسًا على جذع الشجرة الأفقيّ، يظهر بياضه واضحًا في الظلام، يحوطه الغطاء الأبيض. لكني رأيته هذه المرة متحركًا يضرب الهواء بذراعيه ضرباتِ من يحاول الفرار، من يلوّح لأبيه لكي يحمله، من يطرد موتًا يلاحقه. على نافذة الضريح، كانت شموعٌ قليلة تقاوم النسمات، تحاول أن تظل منيرة. تابعت المشي، وضربات الرضيع تسيطر علىّ. أخذتني رائحة الياسمين على مهل، ثم مررت على دكان العصير، وعلى الرغم من أنه كان مغلقًا، إلا أن الرطوبة المشبعة برائحة القصب كانت ملحوظة، تتكاثف على وجهي، استسلمت لها كما اعتدت، وتابعت الهرب.
***
بعد عام من الانتحار، تذكر الناس فجأة الحكاية، تذكروا أن صبرية لا زالت حاضرة وسطهم، وأنها لم تلد، ولم تغب عنهم لتجهض. كانوا قد تابعوا خلال الأشهر السابقة انتفاخًا في بطنها، فتأكدوا من الحمل، ثم لاحظوا أن عامًا مر عليهم والانتفاخ لا يزال موجودًا. تحيّر الجميع.
في حجرتها الصغيرة صارحتها ثلاث نسوة بما يضمرن: سنرى بطنك، لا مفر من ذلك. قالت آمنة: لا نفهم ما يحدث، ومللنا الكلام الفارغ في الخارج، ولابد من الوصول للنهاية. كانت صبرية قد أصبحت بطيئة الحركة بالفعل، بدا الانتفاخ ظاهرًا من تحت الجلباب، كل مشاهد الحمل كانت ظاهرة بقوة، لكن بلا مولود. رفعت صبرية جلبابها ببطء، كشفت عن بطنها، وبعد توقف قصير خلعت الجلباب. رأى الجميع الانتفاخ حقيقةً واضحةً بلا مداولات. لكنه كان أبعد ما يكون عن الحمل، انتفاخ عرضي يعلو البطن، ويقترب من الثديين. قالت آمنة: ليس حملًا، هذا ورم.
قالت النسوة: صبرية مريضة، بطنها متورم ولا نعلم سببًا لما حدث. ولا صحة لما قيل عن الأمير وسبب انتحاره. كان الكلام قاطعًا هذه المرة. مر العام والناس يتقلبون من فرط اختلاط المشاعر، فلما أتت البراءة اطمأن الجميع.
انتهى الأمر بشهادة النسوة الثلاث، قالت آمنة: من سيذكر اسمها بعد ذلك سنقطع لسانه. تذكر الجميع صمت صبرية فصمتوا.
في بداية مرضه اعتاد أبي أن يردد: اللهم خفف عني. ثم علم أن الخفة وسكونه لن يتآلفا، بعدها طغى المجاز على كلامه. ناداني في يوم اكتمل فيه يأسه. قال: ارفع الأخشاب عني. تحيّرت ولم أفهمه، كان راقدًا كعادته، أخبرته أن هذا ثقل المرض، ولا أخشاب. أشار بعينيه إلى غطائه القماشي: ارفع لوح الخشب هذا. رفعت الغطاء محاولًا إرضاءه، تابعه بعينيه ثم سكنتا قليلًا مختبرًا فرق الضغط على جسده، ولابد أنه لم يشعر بأي فرق فأغمض عينيه مستسلمًا.
ثم قل كلامه كثيرًا. قلتُ: أُشغل عبد الوهاب؟ فرد باقتضاب: لا. قالت أختي: كوب من الشاي؟ فرد بنزق: كرهته. قلتُ بعد مدة: أُشغل شادية؟ فلم يرد علىّ، واكتفى بتحريك رأسه.
أدعيت الجلد لكني كنت أهرب مع كل فرصة متاحة. ورأيت أن أحماله الحياتية قد زالت وحل محلها ثقل وهميّ، وحزنت لأن الواحد لن يخلو من الهموم حتى لو سكن وصمت. اكتمل صمتنا مع اكتمال سكونه، لكن أبرع تعليق قاله صديق عمره لما زاره ورآه ساكنًا صامتًا. قال: يا خسارة.
***
أمرت ثلاثون سنة؟ أربعون؟ في كل سنة يموت واحد، راح حراس المباني، والبوابون، والباعة الجائلون، وسعاة البريد، ومحصلو الكهرباء. ثم راحت الجارات، وراح العاملون في القصر، وحديقة القصر، ولم يتبق في النهاية إلا صبرية وآمنة.
عاشت آمنة مع ابنها في بيت قديم بالعباسية، رقدت على سريرها بلا حركة، لكن ذهنها كان صاحيًا. في يومها الأخير، أخذت تنادي صبرية. أشارت إلى ولدها، وأمرته بإحضارها فورًا، هذه الساعة بلا تأخير، قالت: هذا آخر ما أريد. ثم أخذت تناديها مرة أخرى. أتت صبرية متعجلة، لا تعرف ما يحدث سوى أنّ آمنةً تُحتضر وأن ابنها المهرول يود أن ينفذ رغبتها الأخيرة بأي ثمن.
جلست صبرية على جانب الفراش. حدقت آمنة فيها قليلًا سألتها عن حالها، عما حدث، أين ذهبتْ، كيف عاشتْ. سألتها عن من سافر ولم يعد. عن الراحلين. ثم أطالت الأسئلة عنهم. كادت الغيوم أن تختفي. وعند حد معين من الأسئلة توقفت. قالت: أنا أموت، أتمّي الأمر.
في تلك الليلة، وقفت صبرية أمام شباك الضريح لأول مرة منذ سنين عديدة، تعلقت بالقضبان وهي خجلة، بكت، واعتذرت عن ما حدث في حضرة أبو النور. وفي اليوم التالي دخلت إلى مستشفى قريب. صعدت إلى عيادة الطبيب، استلقت على سرير المرضى بدون أن تكلمه، قالت: أرحني. فسألها الطبيب عن شكواها.
***
أتذكر أيضًا يوم وفاتي؛ أسرعت سيارة الإسعاف لتنقلني من منزلي إلى مستشفى لم أعلمها، وجد السائق أن الشارع الرئيسي مزدحم، فقرر اختصار الطريق وقاد سيارته في شارع أبو النور. كنت ممددًا في السيارة، جذعي مائل مع ميل السرير، ونظري متجه نحو نافذتها، عندما لمحت الطفل للمرة الثالثة، هذه المرة كان قد نما قليلًا، كان يتعلم المشي، يخطو خطوات خرقاء، يرافقه رجل طويل، يلبس جلبابًا بيتيًا مخططًا، يمسك بيد الطفل بسعادة، ويتمهل أثناء مشيه، يثني ركبتيه قليلًا، يحني رأسه، يقترب من الطفل، ثم يجاريه في خَرَقه، فيفتعل التخبط. ركل الطفل الهواء بطيش مضحك، واستمرت ذراعه الحرة في الحركة العشوائية بكل تهور، ثم أوشك على التعثر والسقوط. كنت سأضحك حتمًا لو رأيته يسقط بعد كل هذه الشقاوة.
غاب عني كل إحساس بالخطر في تلك اللحظة، لم أكن أعلم أني سأموت بعد دقائق. على الرغم من مرضي الطويل، كان موتي مفاجئًا. حسنًا، الآن سأفترض سببًا لفرحة الطفل الساذجة، سبب سيرضيني حتمًا؛ ربما لأن الطفل علم أني سأموت قريبًا، قرر أن يقوم بحركاته الشقية تلك، أراد أن يلفت نظري بعيدًا عما سيحدث بعد دقائق، أراد أن يقول أنّ القادم أفضل. أو ربما، وهو سبب منطقيّ ويتوافق مع حدود معرفتي؛ أراد الطفل أن يتباهى بالرجل ذي الجلباب الذي يرافقه، وأن يلفت نظره.
***
أمام النافذة ترتفع شجرة الضريح كصوفيّ آخر. انحنى جذعها استعدادًا لتلقي ما بيد صبرية. فوضعت اللفافة التي تحوي جنينها على الجذع. كان الطبيب ذا يد خفيفة، جراح لطيف، أخرج جنين صبرية الميت بلا أضرار تقريبًا. قبل العملية، شرح لها ما عرفته منذ سنين عديدة: توقفت البويضة قبل أن تصل إلى الرحم، ونمت حتى أصبحت جنينًا صغيرًا، مات في أشهره الأولى. ولما أفاقت، أراها كتلة الجنين المتكلّسة، أراد تعزيتها على ما ظنه حزناً. قال: ربما لو عاش لتغيرت أمور.
لمست صبرية قضبان النافذة، وألقت النظرة الأخيرة على الجنين المتكلّس في قبره الخشبي.
نوفمبر ٢٠١٢

 

كتبت هذه القصة في ورشة جائزة الرواية العربية في أبو ظبي