ياسر عبد اللطيف: لسعان الجغرافيا والتاريخ أو كتاب الطغرى ليوسف رخا

كتاب الطغرى12

Sultan Mehmed VI (Vahdettin), aka Şahbaba. Source: osmanli.site

بعد أسابيع من اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، وأيام قلائل من تنحي حسني مبارك، وبينما لاتزال شوارع القاهرة تغصُ بالمظاهرات، وفي وسط حالة من الانفلات الأمني اجتاحت البلاد بعد سقوط الشرطة المريع في 28 يناير، وفيما احتل الباعة الجائلين بالآلاف فضاء وسط المدينة الإسماعيلي، وإذ تُهاجم مجموعات غامضة من المجرمين المستشفيات الحكومية فتعتدي لأسباب مجهولة على المرضى والأطباء، وفي قلب هذا الكرنفال الدامي صدرت رواية “كتاب الطغرى” ليوسف رخا، لتمر على الواقع الأدبي المنشغل بتحركات الحياة السياسية مرور الكرام.. فالدوي السياسي للثورات وما تلاها يعلو صوته على صوت المعركة ذاتها.
“كتاب الطُغرى” أو غرائب التاريخ في مدينة المريخ، كما يقول العنوان الفرعي، وهو عمل ضخم يتجاوز الخمسمائة صفحة بقليل، يدشن به رخا بدايته الروائية، وهو يحمل طموحاً بشق المسار لمشروع روائي من النوع الصرحي. قبل الطغرى أصدر الكاتب مجموعةً قصصية بعنوان “أزهار الشمس” عام 1999، ثم أصدر في السنين التالية ثلاثة كتب في أدب الرحلة، عن مدن عربية كبيروت وتونس وابو ظبي، ثم ديوان للشعر بعنوان “كل أماكننا”.
ورواية كتاب الطغرى كما يقول الكاتب في بدايتها هي “أخبار الصحفي مصطفى نايف الشوربجي يوماً بيوم من 30 مارس إلى 19 أبريل 2007، كما رصدها بنفسه في الأسابيع التالية على هذا التاريخ، موجهاً كلامه، على طريقة الكتب العربية القديمة، إلى صديقه الطبيب النفساني راشد جلال السيوطي، المقيم في العاصمة البريطانية منذ 2001.” تبدأ المغامرة الشكلية في الرواية إذن بمحاكاة الكاتب للكتب العربية القديمة في لغة السرد. وتقفز إلى ذهنك على الفور نبرة ابن حزم في “طوق الحمامة” ؛ ولكن اللغة التي نحتها الكاتب نحتاً تستحق وقفةً هنا، فكأنه أقام جدلية بين الفصحى والعامية بملاحقة الأولى داخل الثانية والعكس بالعكس. ولا يستنكف السرد من دمج كلمات أجنبية أو أخرى مفرطة في عاميتها في جديلة تبدو فريدة، بلا تنصيص يكسر التدفق السردي؛ حتى أنك في لحظة تستشعر أن وحدة الحكي هي الكلمة وليست الجملة.
يبدأ خيط الحكاية بانهيار علاقة البطل مصطفي نايف الشوربجي بزوجته، فيغادر شقة الزوجية في حي المعادي عائداً إلى بيت أهله في منطقة الدقي. وكأن بانهيار زواجه ينهار العالم المحيط بالبطل، فيتجلى له من خلال منظور الهذيان. يقول الراوي متقمصاً تأثير عقار الـ(إل إس دي) المهلوس: “إية رأيك تعتبر الدنيا دي عمارة (…) تسيح حيطانها وأسقفها، سلالمها وممراتها وأبوابها وأنت جوة إحدى الشقق والشقة بدأت تسيح(…) في قلبي من هذا العالم مرض يشبه العيش في هذه العمارة”.
ويتبدى العالم المهشم للبطل كأول ما يتبدى في “المدينة”، وهي هنا القاهرة. التي تجمعه بها علاقة عشق وتدله، وكره في نفس الوقت. فهو يتغزل من حيث لا يدري في شوارعها وجسورها وأنفاقها بينما هو يعبرها حانقاً أثناء السرد؛ لكنها تظهر له في حالة من التنافر الحضري والتشرذم لاتنفصل عن حالته الذهنية، فيحاول الراوي بعد عودته إلى بيت أهله أن يعيد تشكيل المدينة في وعيه، برسم خريطة لحركته فيها وذلك من باب “برنامج إصلاح الذات الذي وضعته لنفسي نصف واع” يقول مصطفى. كما تندمج بنية الحكي ببنية المدينة في هذيان آخر يحاول دمج جغرافيا المدينة بطبوغرافيا السرد لتُستكمل المغامرة الشكلية؛ فبخلاف رسم الخرائط هناك محاولات سردية تشكيلية من قبيل أن يكون طريق “محور 26 يوليو عبارة عن علبة صفيح مقفلة. وهو ضوء سارح في قعرها المموج بمطبات الأمان (…) لماذا إذن يتخيل المنظر، في الرسم كأنه صفحة كتاب؟ صفحة ملآنة على آخرها، والطريق قطع مستطيل يقسمها بالعرض”. مع تضمين رسومات بخط اليد لمثل تلك المغامرة التي قد تغني النص أو تثقله بحسب الزاوية التي تراها منها.
ويبدو انهيار الزواج، حال كونه غطاءًا اجتماعيا يحمي الفردية داخل قوقعته، كنوع من موت الأب، فتضطر الذات لمواجهة العالم عارية بدون غطاء، وهوهنا ما يدفعها لرؤيته وقد ضربه الجنون: “يموت الأب فيطلع ميتين الواحد ويختلط طلعان ميتينه بحالة طلعان الميتين العمومية التي في القاهرة”.
وفي أول عطلة أسبوعية بعد انفصاله الزوجي، يخرج مصطفى في نزهة مع زميله في الجريدة “أمجد صلاح” بأحد مراكز التسوق خارج المدينة، فيدفعه شيء قدري لشراء خاتم فضي يحمل نقشاً إسلامياً، سيتبين لاحقاً أنه رمز أو “طغراء” آخر سلاطين العثمانيين. والنقش في رسمه يتطابق مع رحلة مصطفى داخل القاهرة وفقاً للخريطة التي كان قد رسمها. ويفتح أمجد صلاح أمام مصطفى أول أبواب تفسير المؤامرة الكونية التي هو بصددها؛ أمجد صلاح، المختل عقلياً الذي يتخيل مؤامرة كونية تدفعه للإصابة بالجنون، يتشارك فيها زملاء لهم بالجريدة.
وتضم الجريدة التي يعمل بها مصطفى أنماطاً عجيبة من البشر؛ فهذا المكتب :” نموذج مصغر لشيء شامل وجبار، شيء مثل طلعان الميتين من قبورهم يوم القيامة”. وفضلاً عن أمجد صلاح، هناك الفقي وحيد الدين، الشخص المعزول الهامشي الذي لا يكلم أحدا، والذي يأتي للجريدة ليلاُ بهيئته الرثة بعد أن ينصرف الآخرون. وهو من ستتجلى عبره شخصية السلطان العثماني الأخير وحيد الدين لمصطفى ذات ليلة في المكتب، لتفسر له حدود المؤامرة، ومعاني الرموز التي قابلته طوال الأيام السابقة على ذلك. ويخبره، أنه أي مصطفى، واحد من سبعة أشخاص موجودين في أنحاء مختلفة مما كان يعرف بالإمبراطورية العثمانية، مكلفين بالعثور على رقاع سبعة جلدية تحتوي على سورة مريم القرآنية كاملة مخطوطة بالكاليغراف العربي. وهذه الرقاع كانت بصحبة السلطان الأخير، وقد فقدت منه أثناء ترحيله إلى المنفى. إن “العثور على سورة مريم الضائعة ولم شتات رقوقها المبعثرة هو الخطوة الأولى على طريق إحباط المؤامرة الكونية المحاكة ضد المسلمين”. ويؤكد له شبح السلطان أن في حياته الشخصية وأزمته “ترميزاً وافياً لجوانب المؤامرة نفسها، فكأن هذه الأشياء أنموذج مصغر لمسرح التاريخ”.
وهناك أيضاً بين الزملاء “يلدز” صاحبة الاسم التركي التي يتعرف خلالها إلى شقيقتها كلودين، وعبر ما أسماه علاقة توراتية (أي علاقة متقاطعة مع شقيقتين) يُضاف بعدٌ إيروتيكي للمتن في الفصلين السابع والثامن. وتكتمل الرموز حين يعثر في بيت كلودين على أنموذج للرق الجلدي الذي يبحث عنه، وبالتالي الخيط الذي سيقوده للبدء في إنجاز المهمة التاريخية، بالسفر إلى بيروت.
تبدو الرحلة وكأنها الغاية من وراء الحكاية بأكملها، بدايةً من الانفصال الزوجي أو الطلاق، فالشعور بالخطر المقرون بالفرح، وحتى الإنطلاق ليجلس في النهاية يكتب كل ذلك لصديقه من على مقهي مواجه للبحر في بيروت. ولكن لمَّ الخلافة العثمانية تحديداً يجدها النص خلاصاً من أزمة العالم الإسلامي؟ يجيب الكاتب على هذا السؤال حين يقول على لسان الفقي/السلطان وحيد الدين إنها: “للمرة الأولى منذ علو نجم آل عباس، في دار الإسلام، توحدت السلطة الزمنية مع السلطة الروحية” وبالأحرى أنها كانت المرة الأخيرة. وفي ظنّ مصطفى الشوربجي إن عودة الدولة العلية قد يعيد ما للإسلام من قيم جمالية فقدها عبر قرون الاضمحلال، لصالح كل ما هو متشدد ومتخلف وتحريمي. ففي قلبه من هذا العالم مرضٌ “شفاؤه الرحيل إلى عالم آخر، أو أن لا يكون الواحد ـ في هذا العالم ـ مسلماً عربياً…” وفي موضع آخر يقول: “أن تولد مسلماً في هذا العصر يعني أنك بالضرورة شخص ثان. تكوينك التاريخي ليس نتيجة منطقية للحالة التي أنت عليها”. وكإنها ليست حالة كل من لم ينتم عرقياً للحداثة الأوروبية.
تبدو هذه الرواية وكأنها تقدم أطروحة في سؤال الهوية العربية والإسلامية، وهو هنا طرحها المخادع؛ فإنما يكمن ثقلها في المغامرة الشكلية ببناء غير مسبوق. فقد اعتمد الكاتب “الطغراء” كأعقد تصاميم الخط العربي نواة مركزية لبنيه الرواية محاولاً أن يضاهيها بعالمه المحدود بحركته في المدينة، وبدرجة أوسع بأزمة الحضارة الإسلامية في التاريخ، وهو بذلك يضع الطغرى أيقونةً يحاول أن يضفي من خلالها المعنى على فوضاه الشخصية والمدينية والحضارية؛ وهي ليست بالتأكيد رمية ستصيب هدفها. ومن هنا هي مغامرة شكلية وإن كنا في نفس الوقت لا نستطيع فصلها تماما عن سؤال الهوية المعني. وكأن بالكاتب يعود للسؤال القديم في محاولة تأصيل الشكل الروائي عربياً وإسلامياً…
ويحسب للكاتب القدرة على استنطاق لحظات ميته، وسردها بذلك النوع من الوعي المجروح؛ وهو ما يولد شعرية المناخ العام للرواية. كما نجح في إقامة شبكة علاقات متماسكة ترسم خريطة المؤامرة وراء انهيار زواج مصطفى ووراء تدهور القاهرة واضمحلال الحضارة الإسلاميه، وكذلك ملامح الخطة المضادة.
ولنا أن نأخذ عليه إثقال السرد بكثير من النصوص الموازية وقصائد النثر والتكرارات التي من دونها كان يمكن أن يهبط حجم الرواية إلى ثلاثة أرباعها؛ وخضوع مفاصل السرد أحيانا لقانونالصدفة (كالعثور على الرق الجلدي في شقة كلودين)، وهوما يضعفها دراميا؛ ولكن في بنية تحايثها البارانويا ونوع من الهوس الديني (الهوياتي هنا) يمكن أن تعبُر تلك المصادفات من باب الأسباب التي يجعلها كيان أعلى مفترض خلف “المؤامرة” والخطة المضادة لها.

SaveSaveSaveSave